Table of Contents
1974 كان هو التاريخ الفعلي لحلق شاربي لأول مرة. كنت موجودا لحظتها بمستشفى الأمراض الصدرية لمدينة “تراسا” بكطلونيا، أعالج من داء السل الذي أصابني في المغرب للمرة الثانية، وأجبرني على دخول المستشفى الاسباني بعد أن تفاقمت وضعيتي الصحية لدرجة فقدت معها شهية الأكل حتى بدا جسمي يرفض كل شيء أتناوله، فيلفظه فورا حيث كنت أتقيأ الأكل ممزوجا بالدم.
من كريان لاحونا إلى بارشلونة
لكن طبيب الضمان الاجتماعي، بمجرد أن تلقى مكالمة هاتفية عن وضعيتي الصحية المتدهورة و الخطيرة، حتى قام بالاعتذار لوزير الداخلية في حكومة الديكتاتور فرانكو الذي كان في اجتماع معه، ليتوجه إلى “البينسيون”، مقر إقامتي، القريب من ساحة “لاس رامبلاس” الشهيرة، بغاية تفقد حالتي كمواطن لم يكن اسبانيا، كان هذا المواطن شابا مغربيا في العشرينات من العمر، قادما من كريان لاحونا إلى بارشلونة، بتعبير مطابق لعنوان أحد مقالات احمد سنوسي (بزيز) في عموده “مسيمرات”بجريدة أنوال.
وصل الطبيب، و كنت لا أتقن الحديث بالإسبانية، و من حسن حظي أنه كان يتحدث الفرنسية، فأجبت على أسئلته المتعلقة بوضعيتي الصحية و بكل ما سببه لي داء السل، فواعدني بأنه سيطلب حالا من المستشفى لكي يبعثوا لي بسيارة إسعاف لنقلي فورا إليه.
زارني الطبيب ليؤكد لي أني مصاب بداء السل
عندما وصلت المستشفى، خضعت لفحوص دقيقة، بعدها زارني الطبيب ليؤكد لي أني مصاب بداء السل و أنهم قرروا إرسالي إلى مستشفى الأمراض الصدرية بمدينة “تراسا”، و طمأنني على أنني سأعالج بشكل فعال. و ما هي إلا لحظات حتى نقلتني سيارة الإسعاف ليلا قاطعة مسافة 29 كلم قبل أن أجد نفسي داخل المستشفى لأبدأ من جديد في تلقي الفحوصات الدقيقة.
بعد شهر من وجودي بالمستشفى، و كانت صحتي قد تحسنت كثيرا رغم أن الأطباء اكتشفوا أن نوع الداء الذي أصابني يتعلق بإصابة رئتي اليمنى بثقب غائر في الأعلى و بجرح في الأسفل، بدأت في التعرف على نزلاء المستشفى، و بعضهم سيصبحون أصدقاء، و كان أحدهم اسمه “مانولو” هو الذي فاجأني ذات يوم باقتراح ضرورة حلق شاربي، إذ كان شكل شاربي الصغير يعطي لملامح وجهي نوعا من الجمالية، فرفضت في بداية الأمر، لكنه أصر علي حيث أقنعني بأنه إذا لم أحلقه اليوم سأجبر على حلقه لاحقا، و أن عملية حلقه ستزيد من جمالية الشارب.
“مانولو” قام بحلق شاربي
واقترح “مانولو” أن يقوم هو بنفسه بحلق شاربي، أخد موس الحلاقة (ناباخا) وبدأ في حلقه بهدوء بعد أن بلله بالماء والصابون، لم يكن وقتها في عهد النظام فرانكو يوجد كريم خاص بحلق الشارب كما هو الحال اليوم، بعدها أحسست بارتياح.
ومع مر الأيام سينمو شاربي ليأخذ شكلا كثيفا بدأت أشعر معه بتحول من مرحلة عمرية كنت أبدو فيها أقرب إلى الطفولة إلى مرحلة أكبر منها حيث فتحت لي أبوابها عوالم غريبة وساحرة و أنا أعيش وسط مرضى إسبان من مختلف الأجيال و المناطق، حيث كان يوجد معي الكطلاني و الأندلسي و الغاليسي و الباسكي… كانت بحق تشكيلة من انتماءات جهوية للإنسان الإسباني ببعدها الوطني.
وسط هذا الجو وبعد حلق شاربي مرات عديدة ونموه التدريجي إلى أن أصبح كثيفا بعض الشيء، و باكتمال نضجه، شعرت بأنني نضجت معه، حتى أن الحيوية اكتسحتني و حفزتني على أن أنشط وأنا داخل المستشفى رفقة المرضى الأسبان الذين جمعني معهم داء السل مثلما كانت توحدنا كذلك الرغبة الشديدة في العلاج منه في أقرب وقت.
غمرني الصديق الأندلسي بالعطف و الحنان
وكان شاربي، و هو ينمو، شاهدا على نشاطي المكثف، حيث أصبحت مهووسا بتعلم اللغة الإسبانية، و أنا داخل المستشفى عام 1974 في زمن فرانكو الديكتاتور، كنت دائم الزيارة لمكتبتها، انتقي كتبا خاصة باللغة و النحو لمساعدتي على التعلم و النطق و التواصل بها، و هناك من ساعدني من المرضى ضمنهم “بيبي آيالا” و هو رجل نبيل، اقترح علي أن أعيش في منزله بعد خروجي من المستشفى و قبلت اقتراحه، و في كل مرة، كانت تأتيني زوجته بسندويش مركب من لحمة ستيك و البيض على شكل اومليت، على غرار ما تفعل معه و مع طفليها “خوان” (16 سنة) و “باكو” (10 سنوات)، حيث خلال زيارتهم له في المستشفى أرافقهم إلى فضاء الغابة المحاذية للمستشفى، و هناك تتفتح شهية كل واحد منا للالتهام السندويش و تبادل الحديث، و كنت أشعر أني وسط عائلتي بعد أن غمرني هدا الصديق الأندلسي بالعطف و الحنان و هو الذي جاء ليعيش في مدينة تاراسا الكطلانية من مدينة “ألميريا” الأندلسية التي اكتشفت، و انا في المستشفى أغنية جميلة عنها، كان يغنيها المغني الشعبي الكبير “مانولو إسكوبار” بعنوان عاشت “ألميريا”، و عندما أسمعها أتذكر صديقي الكبير “بيبي آيالا” و محبته الكبيرة و نصائحه و عرضه الإنساني لكي أعيش في منزله رفقة أبنائه.
بكيت و ظللت حزينا لأيام طويلة
وكلما كان شاربي يتجدد، الجميع في مختلف الغرف القريبة لا يتوقف عن مباركتي و تهنئتي بعد أن عرفوا عن طريق “مانولو” بقصة شاربي، فيما كنت استغرب لهذه القيمة التي بات يكتسبها وسط هؤلاء الأسبان و الذي لم يكن له حظ في أن ينمو بالتوازي مع لحية كنت أرفضها و أتغاضى عن حلق مكانها في الذقن حتى لا تنمو، و لم يكن الدافع بسبب عداء للاهوت، فقط هناك إحساسي القوي بان اللحية قد لا تعطيني شكلا جماليا كما كنت أستنتج من دون أن أخضع استنتاجي للاختبار كي أتأكد من مدى صحته.
لكن لم أتمكن من العيش في منزل صديقي “آيالا” بعد أن مات بسبب انفجار معدته. ذات صباح استيقظت باكرا على وقع أنينه الناجم عن آلام حادة في البطن، ذهبت إلى سريره وسألته، اشتكى لي من الآلام، فركضت خارجا بحثا عن الممرض “كاماتشو”، وعندما اقترب منه، ألقى نظرة على وعاء القيئ، تعرف بدقة على طبيعة الدم فيه، تم صرخ، قال الممرض وهو يحدق في وجهي: “صديقك المريض ارتكب حماقة بأن شرب الخمر و تسببت له في انفجار معدته”.
تم نقله بسرعة إلى طابق آخر حيث توجد مصحة الإنعاش، وظللت أز وره إلى أن منعني من زيارته الممرض بدعوى تفادي أثر حالته على حالتي المرضية. وبعد أسبوع أخبرني أن زوجته تمكنت من نقله إلى المنزل لكي تعتني به هناك تحت مراقبة طبيب المستشفى. لكن “كاماتشو” بعد أسبوع أخبرني بنبأ مؤلم: لقد مات صديقك! قال لي: فصعقت للخبر الصادم حتى أني بكيت و ظللت حزينا لأيام طويلة.
كانت زوجته تستجيب لطلبه بأن تأتيه بالخمرة خفية و هي ممنوعة منعا باتا على المرضى لأن خلطها في المعدة مع الأدوية خصوصا المضادات الحيوية تسبب للمريض ما لا يحمد عقباه.
مع الوقت و في وقت كنت قد اقتربت من مغادرة المستشفى بعد أن تمكنت من الشفاء من داء السل، قلت مع نفسي لقد توفي صديقي و توفيت معه صداقة كبيرة، تأملت كثيرا هذا الحالة قبل ان ترأني فتاة كطلانية كانت توجد في أحد الطوايق العليا تواصل علاجها هناك، فابتسمت لي، حيتني و قالت لي: آه شاربك جميل! بادلتها الابتسامة وغادرت المكان باتجاه بارشلونة.