Table of Contents
رحلة معقدة
كانت حياتي في كتالونيا بين عامي ١٩٧٣ و١٩٧٥ رحلةً مُعقدةً، كشابٍّ مغربيٍّ، وجدتُ نفسي في بلدٍ غريب، أُواجهُ محنةَ مرضٍ غيّر مجرى حياتي: السل. لم تُمثّل تلك اللحظات في مستشفى الأمراض الصدرية فصلاً جديداً في قصة حياتي فحسب، بل أصبحت أيضاً فرصةً غير متوقعةٍ للنمو والتعلّم.
لطالما كان الحنين إلى وطني جزءاً لا يتجزأ من حياتي.
الحنين إلى وطني لا يتجزأ
كلما أمضيتُ وقتاً بعيداً عن المغرب، ازداد شعوري بالحنين إلى أماكنه وأحيائه ومدنه. إنه شعورٌ يجمع بين المرارة والحنين، شوقٌ إلى ما تخلفتُ عنه في محاولةٍ للتكيّف مع الجديد. في هذه الحالة، كتالونيا، مكانٌ، وإن بدا غريباً في البداية، إلا أنه أصبح تدريجياً جزءاً من هويتي، جزءاً من وطني.
لم يكن المستشفى مكاناً للعلاج الطبيعي فحسب، بل كان أيضاً ملاذاً أتاح لي فرصةً لاكتشاف ذاتي.
في تلك الأيام، وبينما كنتُ غارقًا في خمولٍ بسبب مرضي، أدركتُ ضرورة إيجاد طرقٍ للتأقلم مع محيطي وتعلم اللغة التي تُحيط بي. وهكذا، وسط بيئةٍ مليئةٍ بالتحديات والقيود، وجدتُ في الكتب والأغاني وسيلةً للتعلم والهروب.
أصبحت القراءة جواز سفري
امتلأت ممرات المستشفى بالهمسات باللغة الإسبانية، لغةٌ بدت للوهلة الأولى متاهةً غامضة. لكن، بمساعدة مكتبةٍ صغيرةٍ لكنها لا تُقدّر بثمن، بدأتُ أغوص في لغة جيراني الجدد. أصبحت القراءة جواز سفري لتواصلٍ أكثر فعاليةً ومعنى.
هناك، بين صفحات الكتب، كوّنتُ رابطًا مع اللغة الإسبانية، مسارًا أخذني إلى ما وراء جدران المستشفى. إحدى الأدوات التي ساعدتني كثيرًا في هذه الرحلة اللغوية كانت الأغاني. لطالما كانت الموسيقى جسرًا بين الثقافات، وفي حالتي، أصبحت مُعلّمًا لا يُضاهى.
كاميلو سيستو منارة رومانسية
أصبحت كلمات الأغاني دروسًا في الحياة واللغة. من بين الفنانين الذين أثروا بي، برز كاميلو سيستو كمنارة رومانسية لامست عواطفي. لم تُعلّمني أغانيه العاطفية كلمات جديدة فحسب، بل أتاحت لي، بدورها، التعبير عن مشاعري وآمالي وأشواقي بلغة بدأت أشعر أنها خاصيتي.
كان غناء كاميلو سيستو بمثابة محادثة مع قلب ثقافة جديدة. عبّرت الكلمات عن الحب وألم القلب، وعن عواطف جياشة وهشاشة إنسانية، مواضيع أثرت في بعمق. في كل نغمة، وجدت انعكاسًا لما كنت أعيشه، صدىً للوحدة التي كنت أشعر بها أحيانًا، والأمل الذي لم أكفّ عن البحث عنه. علّمني داء السل أهمية الوقت.
علّمني تقدير كل لحظة، على الرغم من أن المرض حبسني في المستشفى، إلا أنه منحني أيضًا فرصة ثمينة لإثراء روحي ومعرفتي. بينما كان أصدقائي يستمتعون بحرية الهواء الطلق، انغمستُ أنا في عالمٍ من الكلمات والألحان. من خلال هذا الاكتشاف، تمكنتُ من فتح بابٍ ما كنتُ لأعبره لولا مرضي.
معركتي ضد مرض السل
لم تكن رحلتي إلى كتالونيا مجرد تجربة استشفائية؛ بل كانت تحوّلاً روحياً وشخصياً. كانت معركتي ضد مرض السل، على الرغم من ألمه الشديد، حافزاً وسع آفاقي.
وبينما كنتُ أعاني من ضعف جسدي، اكتشفتُ قوةً داخليةً لم أكن أعلم أنني أمتلكها. تعلمتُ ليس فقط الاستماع، بل التحدث أيضاً. ليس فقط التأقلم مع واقعي، بل تغييره من خلال التعلم والتواصل الثقافي.
في النهاية، أصبحت تجربتي في كتالونيا فصلاً من فصول الصمود، حيث قرّبتني كل كلمة تعلمتها وكل لحنٍ غنيته مما أعتبره الآن موطني الثاني. لا يزال حب اللغة الإسبانية، الذي غرسته أجواء المستشفى ونغمات الموسيقى، في قلبي، تذكيراً بأننا غالباً ما نجد في الشدائد أعظم فرص النمو.
وكلما أمضيت وقتاً أطول بعيداً عن بلدي، كلما عشت من جديد زفي كل مرحلة من تاريخي الشخصي، حياة جديدة بأنغام من لحن لا يتلاشى أبداً.