Table of Contents
محمد التاودي / ستوكهولم
تتراكم الابتسامات المتعبة، وتغيب الحقيقة خلف الأقنعة، ويغدو الصمت أعمق من كل كلام— يبدأ الإحساس الذي لا يُسمى.
في هذا الإحساس، تبدأ حكاية الغربة الصامتة. ليست من مطارات أو تذاكر سفر، بل من ندبة صغيرة في الروح.
عند طرف الوقت، حين يخفت الضوء وتنسحب الأصوات، جلس رجلٌ لا يملك رغبة في الكلام، يتساءل همسًا:
“لماذا أشعر بأنني غريب حتى بين من أحب؟”
الغربة ليست حاجزًا جغرافيًا، بل تمزُّقٌ بين ذاتين: ذاتٌ تُظهر ما يريده العالم، وذاتٌ تنزف في الخفاء. هذا الصدع الوجودي يجعل الإنسان كائنًا مُرمى في عالمٍ لم يختره، يحمل حريةً ثقيلةً كأنها صليب. حين تتناقض ضحكاتك مع صمت روحك، تصير الغربة وطنك الحقيقي.
حين تُثقلُكَ حريةٌ صمّاء بلا شريك، تنكسر الأجوبة الجاهزة، وتولد الغربة الحقيقية: اغترابٌ عن النفس قبل أن يكون عن المكان.
لم يكن السؤال نهاية، بل بداية لرحلة داخلية، لفهم الغربة لا كمنفى، بل كمرآة تعكس ما خفي من الذات. فالغربة، كما الحياة، لا تُقاس بالأميال ولا بالمطارات، بل بما يحدث في الداخل حين يصير المرء غريبًا عن نفسه وهو بين أهله.
وهنا، تمامًا، تهمس العبارة في عمق هذا الشعور:
“الغربة ليست مكانًا نغادره، بل إحساسًا يسكننا ويستيقظ في أكثر اللحظات ألفة.” كما يقول رياض معلوف
تبدأ الغربة الصامتة حين يفقد الإنسان انسجامه مع ذاته، لا مع العالم فقط.
حين يشعر أن الكلمات التي ينطقها لا تمثّله، وأن الوجوه التي اعتادها لم تعد تشبهه، وأن الخطى التي يسيرها كل يوم، لا تقوده إلى أي مكان مألوف.
إنها لحظة خفيفة في ظاهرها، لكنها تنزلق بهدوء تحت الجلد، وتستقر في عمق الشعور، حيث لا يصل ضوء ولا تفسير.
ومن هناك… يبدأ الانفصال، لا عن الآخرين، بل عن الصورة التي كان يظنها “هو”.
ومن هذا الصدع الداخلي، تبدأ لحظة المواجهة؛ حين لا يعود بإمكان الإنسان أن يهرب من نفسه، بل يجد نفسه وجهًا لوجه مع هشاشته الخاصة.
تحت ضوءٍ شاحبٍ كذكرى باهتة، جلس رجلٌ بلا رغبةٍ في الكلام. لم يكن حزينًا، ولم يكن فرحًا، بل بدا كغريبٍ وسط مشهد مألوف.
تساءل، وصوته يُسمَع بصعوبة:
لماذا أشعر بالغربة حتى بين من أحب؟
هكذا تولد الغربة الصامتة: من ندبةٍ في الروح لا يراها أحد، من صمتٍ داخلي لا تترجمه الكلمات. الغربة ليست جغرافيةً فحسب، بل هي صدعٌ وجودي، كما وصفها سارتر، حين قال إن الإنسان “كائنٌ مُرمى في عالم لم يختره”.
ذلك الإدراك يُوقظ وعيًا مؤلمًا: أن الغربة تبدأ من الداخل، من تلك اللحظة التي لا نعود نشبه فيها أنفسنا القديمة، ولا ننجح في التشبّه بمن حولنا.
وكانت هذه الكلمات البسيطة، بوابة الدخول إلى عمق الغربة: غربة لا تُقاس بالأميال، بل تُقاس بما لا يُقال.
الغربة كوعيٍ داخليٍ عميق، ليست مجرد بُعد عن الوطن، بل حالة تُولد حين يُدرك الإنسان أنه “مرميّ في عالم لم يختره”، كما قال سارتر. محكوم بالحرية، يحمل مسؤولية صنع معنى في واقع لا يمنحه يقينًا. هذا الوعي يُغيّره، يجعله يرى العالم بعيون متسائلة، قلقة، غريبة عن الألفة السابقة.
وهنا تبدأ الذات في الانكشاف الحقيقي، لا كما أرادها الآخرون أن تكون، بل كما هي: عارية، متسائلة، قلقة، تبحث عن توازن بين المعنى والحضور.
حين يعي الإنسان هذه الحقيقة، لا يعود كما كان.
تبدأ داخله غربة جديدة، غربة لا عن الآخرين فقط، بل عن الأجوبة الجاهزة، عن المعاني التقليدية، عن الطمأنينة الزائفة التي طالما استند إليها. يشعر فجأة أن لغته لم تعد مفهومة، وأن ضحكاته لا تُعبّر عن فرحه، وأن الوجوه حوله، مهما اقتربت، لا تلمس ما يخفيه خلف نظراته.
ومع هذا الوعي المؤلم، تبدأ رحلة الانسحاب.
ليس انسحابًا جسديًا، بل روحيًا؛ إذ يصبح حديث الإنسان مقتضبًا، حضوره شكليًا، ومشاركاته سطحية. يحاول أن يُعبّر عن ذاته الحقيقية، لكن صوته يتحوّل إلى صدى يتردد في فراغ داخلي، لا يجد له مستمعًا ولا مرآة.
لا أحد يسمعه، لأن من حوله اعتادوا على نسخته القديمة التي كانت تُرضي الجميع وتصمت عن نفسها. ذلك الانسحاب ليس ضعفًا، بل نتيجة قلق عميق: كيف يمكن للمرء أن يعيش ذاته في عالم يطالب بالتكيّف لا بالصدق؟
إنها ليست حالة مؤقتة، بل بنية كامنة في عمق الكينونة البشرية. ذلك الإحساس بأن الذات لا تجد ما يُشبهها، لا في الكلمات، ولا في العيون، ولا حتى في الحلم. ويصبح كل تفاعل — مهما كان بسيطًا — اختبارًا للاغتراب، وكل لحظة صمت، مرآة تكشف ما كان محجوبًا.
لكن في لحظة ما، حين تنكشف الذات على ذاتها، حين لا يبقى شيء سوى الصدق العاري، يولد أمل خافت، لا يتكلم… لكنه يُحِس.
أمل أن تبدأ الرحلة، لا إلى الخارج، بل إلى الداخل، حيث تبدأ المعاني في التشكّل من جديد، لا كما علّموه، بل كما تَذوّقها هو، في صمته، في وحدته، في غربته الصافية.
لكن هذا الأمل، رغم صدقه، لا يحجب ثقل اللحظة الراهنة.
ففي عالمٍ سريع الإيقاع، هشّ الروابط، تُحاصر الإنسان عزلة من نوع جديد.
في عصر العلاقات السريعة والانتماءات الهشّة، والصداقات الافتراضية التي لا تحمل دفءَ العين ولا حنان الجلوس الصامت، يشعر الإنسان بثقل العزلة حتى في أكثر الأماكن ازدحامًا.
يعود من زحام البشر ليصطدم بصدى وحدته، وكأننا نتبادل الأجساد ونُخفي الأرواح. الكلمات تُقال، واللقاءات تُعاش، لكن الفهم نادر، والعمق مفقود، والحقيقة غائبة في الزحام.
وهنا تصبح المفارقة أكثر إيلامًا:
وكم هو موجع أن يشعر الإنسان بوحدة أشد بين الناس مما يشعر به في عزلته.
كلما حاول أن يُظهر وجهه الحقيقي، أن يتكلّم من قلبه لا من لسانه، قوبل بالصمت المُربك، أو بالسخرية، أو بالتجاهل.
فيتعلّم، ببطءٍ حزين، أن يُخفي نفسه. أن يلبس الأقنعة التي يُحبّها الآخرون، أن يُتقن الأدوار التي تُرضي الجميع وتُخدّره هو.
ومع الوقت، تصبح هذه الأقنعة جزءًا من ملامحه.
وهكذا، لا يعيش ذاته، بل يعيش نسخةً منها. ويغدو كل تواصل جديد… تأكيدًا لغربته، لا طمأنةً لها.
تُصبح الابتسامة واجهة، والحضور الجسدي نوعًا آخر من الغياب، والمكان مجرد مسرح تُعاد فيه نفس الحوارات، لكن بلا دفء ولا معنى.
الغربة، إذن، لا تبدأ بالرحيل، بل بالشعور أن الداخل لا يجد صدى في الخارج.
وكلما زاد التكيّف، تآكل شيء من الصدق. وكلما ارتفعت القدرة على الاحتمال، ازداد الجرح عمقًا.
وعندما يبلغ هذا الإحساس مداه، يبدأ التساؤل: إذا لم يعد الدفء في الوجوه القريبة، فأين يكون الوطن إذن؟
الغربة لا تحتاج إلى سفر، بل إلى لحظة صدق، يُدرك فيها الإنسان أنه غريب حتى وهو بين أهله.
أن اللغة لم تعد تصله، وأن العيون تمرّ عليه ولا تراه، وأنه لم يعد يعرف أين يضع قلبه.
وعندما يبلغ هذا الإحساس مداه، يبدأ التساؤل: إذا لم يعد الدفء في الوجوه القريبة، فأين يكون الوطن إذن؟
في مثل هذا السياق المُربك، لا يعود الوطن مجرد جغرافيا أو عنوانًا بريديًا، بل يتحوّل إلى شعور، إلى حضن داخلي، إلى مساحة وجدانية يشعر فيها الإنسان أنه مسموع دون أن يصرخ، مفهوم دون أن يشرح، مأخوذ على محمل الجدّ دون أن يتوسّل.
فأقسى أنواع الغربة ليست تلك التي تفصلنا عن المكان، بل التي تفصلنا عن أنفسنا ونحن بين من يُفترض أنهم أقرب إلينا.
حين لا يعود المكان ذاته… ولا الروح هي الروح.
وهكذا، حين تصير الغربة مرآةً تُظهر ما خفي من أعماقنا، لا تعود العودة مجرد رحلة عكسية إلى المكان، بل محاولة لاسترجاع الذات التي أضعناها في زحام الاغتراب.
من هنا تبدأ الحكاية… حكاية رجلٍ عاد لا ليستعيد ما مضى، بل ليُفتّش في الزوايا الصامتة عن شيء ظلّ معلقًا: معنى الوطن، وملامح الطمأنينة. عاد بخطى ثقيلة إلى أول عنوان حمل اسمه، إلى منزل لم يتغير في الأوراق… لكنه تغيّر في كل شيء.
عند المنزل رقم 13، صُدم ببابٍ حديدي جديدٍ بلا ذاكرة، كأنه حاجز أمام الماضي. دارت عيناه في الحي: زَليجٌ مُستبدل، وألوانٌ باهتة، وجدرانٌ تهمس بغربته. حتى جيرانه القدامى، من تذكّره منهم، نطقوا اسمه كصدىٍ بعيد: “عبد القادر؟ آه… مرّت سنين.” بينما بدا آخرون كغرباء تمامًا. في تلك اللحظة، أدرك أن العودة لا تعني الاستقبال، وأن بعض الأبواب تُفتح لتُذكّرك بأنك أصبحت زائرًا في المكان الذي نشأت فيه.
“أأنت عبد القادر؟ ولد الحاج بنعيسى؟… آه، مرت سنوات طويلة.”
دخل البيت الذي يسكنه اليوم أخوه الأصغر أحمد في حي لالة مريم، واستُقبل بحفاوة صادقة، لكن شيئًا في الجو ظلّ عالقًا… كأن الغربة سبقته حتى إلى الداخل.
كان البيت نظيفًا، أنيقًا، مرتبًا… لكنه غريب. تمامًا كما أصبح هو.
وفي غرفة الأم، حيث لا يزال صدى صوتها يعتصر الفراغ، حاول أن يلتقط همس الذكريات، أن يعيد ترتيب الطمأنينة التي كانت تسكن المكان.
لكن الصمت كان أقوى من أي نغمة، والدفء لم يعد يسكن الجدران، بل يقيم فقط في الذاكرة.
في محاولة لاستعادة شيء من الذاكرة، خرج عبد القادر يتجوّل بين الأزقة التي كان يحفظها عن ظهر قلب. مرّ بمسجد الرحمة، وتوغّل في الأزقة المجاورة، ثم عرّج على قيسارية الحياني من الجهة الأخرى.
بينما كان يتفحص طماطمًا ذابلة عند دكّان الخضار، سمع صوتًا يخترق ضجيج السوق: “عبد القادر؟” التفتَ فرأى عجوزًا يجلس على كرسٍ مهترئ، يمسح تفاحة بكمّه.
“أتعرفني؟” سأله عبد القادر.
“الأحياء ينسون، أما الحجارة فتتذكر”، أجاب العجوز وهو يشير إلى جدار قديم.
“ذاكرة الحي هنا — تنتظر من يقرأها.”
حتى الشمس، بدت له أقل دفئًا. بينما كان يتأمل واجهات البيوت بصمت، في أحد الأزقة الضيقة، سمع همسات خافتة تنبعث من زاوية مظلمة. اقترب فوجد رجلاً مسنًا يحدق في الفراغ.
قال له بصوت متهدّج: “أنت عبد القادر؟ كنت صغيرًا عندما رحلت… الحي تغيّر، لكن هناك من لا يزال ينتظر عودتك.” تفاجأ عبد القادر وسأله: “من؟” فأجابه الرجل بابتسامة غامضة: “الذاكرة… والروح التي تركتها خلفك.”
كلمات قليلة، لكنها اخترقت قلبه كحقيقة مؤجلة. وبعد أيام، وبينما كان يجلس مع أخيه أحمد في مقهى صغير على زاوية الزقاق، سأله متأملاً: “هل تشعر فعلًا أنني عدت؟”
أجابه عبد القادر بهدوء: “عدتُ بجسدي فقط. روحي لم تلحقني بعد… كأنها ضاعت في الطريق.” ابتسم أحمد وقال: “ربما لم تضِع، بل كانت تنتظر أن تسأل عنها.”
تلك الكلمات دفعته لزيارة مقبرة الغفران حيث دُفنت والدته. وقف طويلًا عند الباب، وسأل أحد الحراس عن قبر الحاجة زهرة بنت حمّو، فدلّه على مربع 14، الصف الخامس. مشى عبد القادر وسط القبور في صمت مشوب بحنين كثيف، إلى أن وصل.
هناك، بين قبور من رحلوا، وجد نفسه أمام مواجهة أعمق مع ذاته؛ لحظة صمت لم تكن عودة جسدية فحسب، بل عودة إلى الزاوية المنسية من روحه. لأول مرة منذ عقود، لم يشعر عبد القادر أنه “عاد”… بل أدرك أنه لم يُغادر يومًا. لقد كان دائمًا هنا، في تلك الزاوية من روحه التي طالما هجرها، حيث تسكن الحقيقة بصمت، بعيدًا عن ضجيج العالم.
حين نقترب من فهم الغربة من خلال عدسة النفس، لا تعود مجرد حالة خارجية نعيشها في بلاد بعيدة، بل تصبح تمزقًا داخليًا عميقًا؛ المسافة المؤلمة بين ما نشعر به حقًا، وما نضطر إلى إظهاره.
بين الصوت الخافت الذي ينبعث من أعماقنا، والصدى العالي لتوقعات الآخرين، تصبح الذات
ساحة صراع مستمر: بين رغباتها المكبوتة، ووعيه المتعب، وضميره الذي لا يرحم.
التعبير حين يُمنع، لا يختفي، بل يتحوّل إلى قمع داخلي. يتراكم هذا القمع، فيتسلّل القلق كثقل ثقيل، ثم يأتي الاكتئاب، ليس فقط كمرض، بل كعلامة على كسر داخلي. يتبعه الفقد، ذلك الفقد الهادئ الذي يسكننا كغيمة ثقيلة، يُطفئ الحماسة ويُبهت الألوان.
وهكذا يبدأ الانقسام. يتحول الإنسان إلى صورتين متباعدتين: صورة تؤدي دورها أمام الناس، تبتسم وتتماشى مع المتوقع، وأخرى حقيقية وصامتة تختبئ في الداخل، تراقب وتنتظر لحظة الخلاص. الأولى تعيش لتُرضي، والثانية تنزف بصمت.
في هذه الحالة، تصبح الغربة لا عن الوطن، ولا عن الناس، بل عن الذات نفسها؛ الذات التي أُهمِلت طويلًا، حتى بهت صوتها، وتحوّلت إلى ظلّ يعيش على أطراف الحياة. هناك، عند حافة المقبرة، حين التقت نظرته بعيني تلك العجوز التي لم تنسَ وجهه، بدأت ملامح التحول تنبض في داخله… لم تكن الغربة قدرًا، بل نتيجة؛ وكان لا بد من العودة لا إلى المكان، بل إلى نفسه.
أن تنظر في المرآة فلا ترى سوى غريبٍ يرتدي وجهك؛
أن تشعر بالغربة في حضن نفسك، وتُجيد التمثيل بملامح متعبة.
أما الحقيقة فتظل مخبوءة خلف الجفون، تنتظر اللحظة النادرة حين تجرؤ الذات على مواجهة ذاتها.
بداية الطريق إلى الشفاء
تحت ضوء القمر المتسلل من النافذة، انحنى عبد القادر على دفتره، فخطّ كلمات تحمل أكثر من استرجاع للماضي:
“لم أعد إلى المنزل رقم 13 لأستعيد ما فات، بل لأجد الطفل الذي تركته خلفي حين رحلت.”
وفي صباح اليوم التالي، رأى طفلة ترسم بيتًا بالطباشير على الأرض. اقترب منها بهدوء، وسألها:
“وماذا لو تغيّر شكل البيت؟”
أجابت بابتسامة بريئة:
“سأرسمه من جديد… كما أتذكره.”
في تلك اللحظة، فهم عبد القادر أخيرًا: الوطن ليس حجارة، بل ذاكرة نعيد خلقها من الرماد.
الغربة الأقسى هي أن تصير غريبًا في وطن جسدك،
تبتسم للناس وجهًا، بينما يئن القلب بصمت.
حين يُخنق التعبير، يتحوّل القمع إلى قلقٍ مدفون، ثم إلى انطفاء داخلي لا يُرى.
وهكذا، يغترب الإنسان عن ذاته قبل أن يغترب عن وطنه.
في قاع غربته، التقط عبد القادر وميضًا من ماضيه،
لحظة انكشاف تُسقط الأقنعة،
ويتوقف عن مطاردة أشباح القبول، ليواجه شبحه الحقيقي في المرآة.
هناك، يبدأ رحلة العودة إلى ذاته، لا كهروب درامي، بل كهجرة هادئة نحو الداخل، نحو جوهره المنسي أو المنكَر. في تلك اللحظة، يتحوّل القرار الشخصي إلى أداة شفاء، إلى باب صغير في جدارٍ عالٍ.
قرار بالإصغاء للصوت الداخلي لا كترف، بل كحقّ. أن تُصدّقه، وإن بدا هشًّا، وأن تتعلم قول “لا” لكل ما يُخالفك، و”نعم” لما يُشبهك. أن تعيد النظر في علاقاتك، لا من خلال الخوف من الوحدة، بل من خلال الكرامة.
أن ترى وحدتك لا كعقوبة، بل كمساحة خصبة للخلق، بعيدًا عن التقييم والمراقبة. الشفاء لا يأتي دفعة واحدة، بل كالمطر: قطرة… ثم قطرة. يبدأ من قرار صغير في عمق الليل، دون إعلان أو ضجيج.
قرار يُحوّل الغربة من جرحٍ إلى سؤال، ومن السؤال إلى معنى. وربما لا يجعل هذا القرار الغربة فرحًا، لكنه يمنحها وظيفة: أن تُنضجنا وتعيدنا إلى أنفسنا.
فالغربة، في جوهرها، هي تلك المسافة بين ما نشعر به وما نظهره، بين صوتنا الحقيقي وصدى توقعات الآخرين. لكن حين نختار أن نكون صادقين مع ذواتنا، تبدأ العودة… لا إلى العالم فقط، بل إلى حيث كنّا دومًا، دون أن نرى.
من الألم إلى النور
حين تجرؤ الروح على الإنصات لنبض الحنين،
لا يُسمع بالأذن، بل يُحسّ بنبضٍ في شرايين الذاكرة،
في سكون الليالي، حين يصمت العالم، وتصرخ الأسئلة المدفونة في الأعماق.
لكن الغربة — في جوهرها — ليست نهاية، بل ممرٌ مؤلم نحو الذات.
وحين نُقدم على مواجهة ذلك “الصدع الوجودي”، نكتشف أنها لم تكن عدوًا، بل معلّمًا صامتًا يدفعنا للسؤال:
أيُّ وطنٍ داخلي نبحث عنه؟ وأيُّ غربةٍ تنتظر أن ننضجها لتصير نورًا؟
ذلك الحنين ليس ضعفًا كما توهّم البعض، بل هو شكل من أشكال الشجاعة الصامتة؛ شجاعة أن نُواجه ما تهرّبنا منه طويلًا: أنفسنا.
فالسفر، في حقيقته، لا يبدأ حين نقطع الحدود أو نلوّح للمدن من نوافذ الطائرات، بل يبدأ حين نطرق أبواب الداخل، حين نقف وجهاً لوجه أمام مرآة الروح، ونسأل: من أكون حقًا، دون أقنعة، دون تصنّع، دون تلك الأدوار التي أجبرتنا الحياة أن نلبسها؟
ربما لم نكن نبحث عن وطن خارجي كما كنا نظن، بل عن وطن داخلي؛ عن ركن نلوذ إليه دون تبرير، عن مكان لا نحتاج فيه لشرح أنفسنا، لأننا هناك، ببساطة، مفهُومون.
لقد تعلّمنا — على مضض — أن الغربة، مهما اشتدّت وطأتها، لا تأتي فقط لتُفرّق، بل أحيانًا لتُعلّم. ليست لعنة كما ظنناها في البداية، بل معلم صامت يضعنا في مواجهة مباشرة مع ذواتنا. تدفعنا إلى نزع طبقات الزيف، طبقةً بعد أخرى، حتى نصل إلى ذلك الطفل القديم فينا، الطفل الذي عرف نفسه قبل أن يُعلّموه كيف ينساها.
قد يجلس الغريب في الزاوية، صامتًا، يحمل في عينيه رواية لم تُكتب بعد؛ رواية عن الوحدة، عن المسافة الخفية بين ما نُظهره وما نعيشه فعليًا. فذلك الذي لم يغادر وطنه يومًا قد يحمل غربة أشدّ من كل من عبروا المحيطات، لأن الغربة الحقيقية لا تُقاس بالبعد الجغرافي، بل بغياب الفهم.
الأقسى من الغربة أن لا يجد الإنسان من يسمعه حين يريد أن يتكلم، أو من يراه وهو يختفي بصمت.
يبتسم في وجه الحياة، لكنه ينزف في داخله دون صوت.
ومع الوقت، تصبح الوحدة طقسًا يوميًا، والاغتراب هو القاعدة لا الاستثناء.
ومن عمق هذا الصمت المُثقل، ينهض سؤال قديم بشكل جديد:
ربما لم يعد الأهم أن نسأل: “أين أنا؟”، بل: “من أنا وسط هذا الضجيج؟ من أكون حين يصمت الكل، ويبقى صوتي الداخلي وحده حاضرًا؟”
فالصمت الحقيقي لا يُقاس بانعدام الضجيج، بل بما يُولد من عمق الذات حين يهدأ كل شيء.
حين يتجرّد الإنسان من كل ما تراكم عليه، من الأقنعة والأدوار والتوقّعات، لا تعود الحقيقة بحاجة إلى ضجيج كي تُقال؛
بل تظهر بصمتٍ كاشف، بنورٍ هادئ، لا يرحم ولا يُجامل.
تُطفأ الأضواء، وتسقط الأقنعة، وتنكشف الذات كما هي:
خامَةٌ أولى، عارية من التزييف، نقية من الزينة، متعبة من التمثيل.
وهناك، في هذا العراء الداخلي، لا يعود الإنسان غريبًا عن نفسه.
بل يبدأ أولى خطواته نحو عُمقٍ كان منسيًا، نحو جوهرٍ ظلّ مختبئًا تحت ركام السنين.
رحلة لا تقوده إلى وطن جغرافي، بل إلى الذات التي كانها يومًا…
قبل أن يُدرّبها العالم على الاختباء.
وهكذا، تحت سماء المغرب التي احتضنت غربته قبل أن تحتضن جسده، أدرك عبد القادر أن العودة لم تكن رحلة نحو منزل، بل عبور نحو ذاته.
في صمت المقبرة، في نظرة العجوز، في ملامح الطفلة، وفي رائحة خبز أمه العالقة بجدران الذاكرة، بدأت تتشكل نسخة أخرى من الوطن:
وطن لا تحدّه الجدران ولا يزخرفه الزليج، بل يسكن القلب حين يجرؤ على الإصغاء.
لم تعد الغربة عدواً، بل مرآة؛ لم تعد وجعًا يُخجل، بل نداءً للصدق مع النفس. كان لا بدّ أن يتألم، أن يضيع، أن يصمت، حتى يسمع. فالذات التي أُهملت طويلًا، حين استُعيدت، لم تطلب اعتذارًا، بل إصغاءً فقط.
في القطار المتجه إلى المجهول، أغمض عبد القادر عينيه. سمع همسًا: “الغريب مَن يحمل وطنه كجرحٍ مفتوح”. فتح حقيبته، وأخرج دفترًا فارغًا. لأول مرة… لم يخش الصفحات البيضاء.