Table of Contents
ليس كل من غادر بلده قد رحل فعلًا، فهناك من يُنفى بجسده، بينما يبقى وجدانه معلقًا في هناك زوايا الوطن. وهنا، في مدينة مثل نيويورك، كثيرًا ما تختبئ “أوطان مصغّرة” داخل المطابخ، فوق أطباق مغاربية تفوح منها رائحة الهيل والكمون، فتخفف شيئًا من ثقل الغربة، أو التغريبة بتعبير أدق؛ في المنفى غربة قسرية.
المنفى لا يعني فقط الابتعاد عن الجغرافيا، بل هو أيضًا صراع يومي حول معنى الانتماء، ومحاولة دائمة للحفاظ على الذاكرة كوسيلة للبقاء. وهنا يصبح المطبخ لدى كثير من المنفيين والمنفيات لغةً ثالثة، لغة صامتة يترجمون من خلالها ما عجزوا عن قوله، ويرمّمون بها ذواتهم التي تصدّعت بسبب الاغتراب.
في لقاء جمعني بصديقين أحدهما تونسي، والآخر موريتاني، لم يكن الحديث عن السياسة أو عن ظروف الرحيل أو تهجير، بل عن ما تبقى من الوطن في غلاغل الذاكرة؛ نكهة الطفولة، روائح الأمكنة، وطقوس المائدة التي ترفض أن تُنفى معنا؛ كانت تلك التفاصيل الصغيرة بمثابة جسر بين أمس المغتال واليوم المنفي، بين الغربة والوطن الذي لا يغيب.
حين يتحول الكسكسي لبيان سياسي
لم يكن أول طهو للكسكسي في نيويورك تجربة ممتعة بالنسبة للكاتب والمحامي التونسي حمادي الخليفي، فهو يصفها ضاحكًا بأنها كانت “فشلًا عاطفيًا عظيمًا”، لكنه يعود بسرعة ليقول إن ما حدث لم يكن مجرد عبث في المطبخ، بل لحظة مواجهة حقيقية مع المنفى، ومواجهة لا تدور حول المقادير أو درجة حرارة الماء، بل حول سؤال الهوية والانتماء والذاكرة.
“حين لم تنجح الوصفة كما يجب، شعرتُ أنني فقدت شيئًا أعمق من مجرد طبق، شعرت أنني خذلت نكهة أمي، وصورة الوطن في ذهني”، يقول حمادي، الذي غادر تونس منذ سنوات ليستقر في نيويورك.
بالنسبة له، الطهو ليس مجرد عادة منزلية، بل فعل مقاومة يومي، ففي مدينة نيويورك، حيث تذوب الهويات بسرعة في ماكينة الاندماج التي لا ترحم؛ يصبح المطبخ مساحة شخصية للدفاع عن الذات، وللحفاظِ على ما تبقى من الانتماء.
“الطبخ لغتي الثالثة، بين الجسد والسياسة، هو وسيلتي لمخاطبة وطن لم أعد أستطيع الوصول إليه، ولإعادة ترتيب ذاتي تحت وطأة الغربة”، يقول ابن تونس الخضراء.
داخل بيته، لا يُقدم الكسكسي كوجبة فقط، بل كبيان غير مكتوب؛ طبق حار، جريء، يحمل شيئًا من الذاكرة، وشيئًا من الرفض، فهو كما يراه حمادي “تجسيدًا حسيًا لهويتي… لذيذة، حاضرة، ومزعجة في آن واحد.
أكثر ما يفتقده في المطبخ هو زيت الزيتون التونسي، أو كما يسميه “زيت النضوح”، إنه زيت أخضر قاتم، قوي النكهة، ولكنه يربطه برائحة الأرض وأصوات الجبال في قريته الأم، “هو ليس مكونًا غذائيًا فقط، بل مستودع للذاكرة، وجزء من توازن روحي الذي لا يعوَّض”، هكذا يشرحه ببساطة عميقة عمق جذور الزيتون في الأرض.
في ليالي الكسكس التي يقيمها أحيانًا لأصدقائه العرب في نيويورك، يرفض أن تكون المائدة دعوة للاندماج أو المجاملة؛ بل يصر على أن تكون مساحة حرة للانتماء كما هو، بكل ما فيه من حرارة وتوابل… كأنه يحاول تأكيد ما قاله الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف في مؤلفه المستنير: “كلّما شعر المهاجر بأن ثقافته الأصلية محترمة، انفتح أكثر على ثقافة البلد المضيف”، وكنه يفعل ذلك على طريقته الخاصة.
“الأطباق الأصدق تُطهى دون ولاء، بل بنكهة المعارض”، يعلّق ضاحكًا حين نسأله مازحين عن الطبخ خارج “المطبخ السياسي”، وعن علائق الطبخ بالوطن ومفهوم الوطن عند المغترب أو المنفي.
حمادي، الذي يجمع بين الكتابة والقانون والطهو، لا يرى في هذه الممارسات أي تناقض؛ بل يعتبر أن من حق المنفي أن يعيد تعريف أدواته، وأن يصنع من قدر الكسكسي منبرًا صغيرًا يقول منه: “أنا هنا… بطريقتي”.
الصحراء في طبق: عندما يتحول الطهي إلى مقاومة وهوية
في شقّة صغيرة بنيويورك، حيث تلتهم المدينة الوقت وتبتلع الطقوس، اختار الطبيب والكاتب الموريتاني، محمد دومان، أن يواجه المنفى بطبق… لم يكن مجرد طهي، بل استدعاء لذاكرة جماعية، ومحاولة لصنع وطن بديل على نار هادئة.
ففي بيئته الصحراوية الأولى، لم يكن الطعام طقس ترف أو متعة ذوق، بل استراتيجية بقاء في وجه الندرة؛ وهناك، في قلب مدينة لا تعرف الصحراء، قرّر دومان أن يطهو الكُسكسي الموريتاني الأسود — ليس فقط لسد الجوع، بل ليرمّم شرخًا أحدثه الغياب.
لم يكن “الطبق الأول” في المنفى مجرّد تجربة طهوية، بل إعلان ولاء لذاكرة لا تقبل المحو. دومان، الذي نشأ على مائدة عائلية ممتدة، يتذكر اندفاعه من المدرسة إلى البيت، ليس جوعًا بل توقًا لذلك الدفء الجماعي حول الطعام.
وفي نيويورك، غابت تلك اللحظات لا المكونات، وافتقد الطقس المرافق للطبق، وإيقاع اللقمة في الروح قبل البطن، أكثر من افتقاده للنكهة… فالمدينة كما يقول “انتزعت مني زمن الطعام، لا مذاقه فقط”.
وفي مواجهة هذه العزلة، تشبث دومان بما تبقّى من الصحراء في ذاكرته؛ لقد وجد في لحم الإبل المستورد من أستراليا خيط نجاة، امتدادًا لقافلة لم تنقطع، من شنقيط إلى بلاد العم سام، وكلما كان يدعو أصدقاءه الأميركيين لمشاركته هذه المائدة، لم يكن يستعرض الغرابة أو تلك التي يسميها الأدباء “الواقعية السحرية” بل لتقديم هويته في طبق.
“سفينة الصحراء لا تزال تبحر، حتى في أحياء نيويورك، طالما بقي الطباخ وفيًا لقافلته”، هكذا يشرح الدكتور البدوي الذي خرج إلى العالم من بين الخيام والكثبان.
وحين أجاب ساخرًا عمّن يطبخ أفضل: المنفي الذي طُرد من المطبخ السياسي؟ أم من بقي يقدّم ولاءه على نار هادئة؟، لم يبدي ضحكته، بل كان رده كما لو أنه يتذوق الطعام من جديد: “الطرد من المطبخ مؤلم، خاصة إذا كنت جائعًا للتغيير والمشاركة السياسية”.
الطبخ ممارسة وجدانية
في المنافي البعيدة، لا يظل الطعام مجرد حاجة بيولوجية، أو ترف حنينيٌّ إلى وطن مفقود، بل يتحوّل إلى ممارسة وجدانية عميقة، تنبض بالمعنى والكرامة والذاكرة… هناك، في قلب الغربة، يصبح المطبخ آخر ما تبقّى للذات كي تعيد لملامحها بعض النظام، بصمت، ومن دون خطابات، هو فقط بخارٌ يصعد من قدر يغلي، وملاعق تنبش ذاكرة البيت الغائب؛ يغلي القدر كما تغلي الروح في مراجِلِ الوجع النوستالجيِّ، أو نوستالجيا الوجع!
الطهو كما الإطعام، لا يأتيان في الهامش، بل يتوسّطان صلب التجربة الإنسانية، وفي تلك الزاوية من المنفى، حيث لا مكان للذات في مؤسسات الاعتراف، وحيث تتقلص الأدوار إلى أشباح في مدن لا تنظر، يغدو المطبخ منبرًا صامتًا وموقعًا للمقاومة الرمزية، خاصة في لحظات العجز عن القول، يتكلف الطبخ بقول كل شيء على هيئة لقمة تُحضَّر، بطبق يُقاسَم، وبنظرة امتنان تمرّ من فوق الطاولة.
حتى في النص القرآني لم يفصل الله بين الطهو كفعل يومي وبين القيم الكبرى التي تحفظ كرامة الإنسان، بل يربط بين الطعام والحب، بين الإطعام والإيثار: “ويُطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيماً وأسيرًا”، والمنفي يا عيني مسكين غربة، يتيم وطن وأسير للذاكرة والحنين!
وهنا في النص المقدس، لا يدور الحديث عن سدّ جوعٍ فحسب، بل عن تشكيلٍ أخلاقي لمجتمع يُبنى من تفاصيل المائدة، حيث تتجسد العدالة في لقمة، والتضامن في صحن، والرحمة في نظرة عابرة.
وفي هذا السياق، يصبح الطهي فعلًا أخلاقيًا متجسدًا – embodied ethics. لا يحتاج إلى تنظير، بل يُمارس كل يوم، حين تضع المنفية يدها على العجين، أو حين يطهوا اللاجئ طبقًا غير مكتمل المبنى بالمكونات، لكنه مكتمل بالمعنى… إنه شكل من أشكال الوجود الصامد، حيث الرائحة تنطق بما لا يُقال، والبهارات تتحول إلى بيان سياسي صامت، والمائدة – وإن خلت – تشهد أن الروح لم تُجَوَّع.
المذاق كأرشيف للمقاومة
الأطباق التي تُطهى في منافينا، ليست مجرّد وصفات تُقتبس من كتب الطهو أو تُستعاد من دفاتر الجدّات، بل هي لغة مقاومة حسيّة، تنبعث من عمق الفقد لتعيد للمنفيّ سيادته الرمزية على الذات. ففي عالم صودر منه الصوت، وأُخضعت فيه اللغة للرقابة؛ يتحوّل المطبخ إلى منبر بديل، إلى صحيفة لا تمر على مقص الرقيب ولا تحتاج إلى موافقة رسمية، بل إلى لهب، قِدر ورغبة صامتة في التذكّر.
والمنفى مهما بلغت سطوته، لا يستطيع أن يُصادر الذائقة، لأن الطعم لا يُنفى. والطبخ، حين يُمارَس في ظل القطيعة، يصبح فعلًا سياسيًا هادئًا، كتابة بلا كلمات، وصلاة دون سجود، يُرفع فيها البخار بدل الدعاء، وحرب لا هوادة فيها تُسكب فيها الذكرى بدل الماء.
على الموقد، يُعاد تشكيل الوطن، ليس وفق خرائط السلطة، بل عبر إيقاع موسيقي للملعقة على جدار القدر، عبر رائحة الحساء، وملمس الزيت على اليد! وهناك، في كل مرة يغلي فيها طبق من طعام الأمس، يتأكد المنفيّ أن النكهات لا تُهجّر، وأن للمقاومة أدواتٍ بسيطة؛ ملعقة، موقد نار، نكهة وطن وذاكرة لم تنكسر.
لسنا نطبخ لنأكل فقط، نحن نطبخ لنقاوم؛ لنثبت أننا ما زلنا هنا، رغم كل الإقصاء، وأن الوطن، وإن أُغلق بابه في وجه أجسادنا، ما زال يفتح نافذته لنا كل مساء… من داخل القِدر، لأن الوطن قدرنا حتى وإن لم تعد في أرحامه مساحات للحلم بالوطن أو للوطن نفسه!
الطبخ في هذه الشهادات لا يُقاس بعدد المكونات، بقدر ما يعيد للمنفيين شعورهم بالحضور، وبما يُبقيهم مضيئين، حين يُراد لهم أن ينطفئوا! إنه رسائلنا المعلقة في بريد المنع والتي لا يجرؤ أي ساعي بريد على إيصالها.
عفاف برناني
ناشطة حقوقية
مدينة نيويورك