محمد التاودي
حين تنطق الأرواح بلغتها قبل الألسن، يُولد اسمٌ لا يُكتَب، بل يُحَسّ… اسمه تمغربيت.
ليست حبرًا يُدوَّن في سجل، ولا شعارًا يُرفع في الميادين، بل وجدانٌ ينبض بين الأيادي العاملة وهمسات الحِكَم المتوارثة.
هي روح تتجسد في الكلام، واللباس، وطرُق العيش، حيث يلتقي الأمازيغي والعربي والحسّاني واليهودي والموريسكي في لوحة إنسانية متماسكة لا تعرف التمزق.
حين تترنح المؤسسات، ينبعث من أعماق أزقّتنا وخبايا مدننا خيطٌ خفيّ يعيد نسج الفوضى بخيوط “التربية” و”الحكمة” و”الصلح”، قيمٍ ورثناها عن جدّة لم تمسك كتاب قانون، لكن العدل مزروع في فطرتها.
يمكن رؤيتها في المقاهي والأسواق، حيث تختلط اللهجات وتُعقد الصفقات، وحيث يُبادر أحد الجالسين بدفع ثمن قهوة غريب في بادرة كرم لا تحتاج إلى تفسير.
وهذا الحس لا يحتاج إلى مناسبة؛ يكفي أن يجتمع المغاربة، في عرس أو لقاء عابر، حتى تذوب الفروق وتنسج “تمغربيت” من اختلافهم نغمةً واحدة، تُعزف بأوتار متعددة، وتُؤدّى بلهجات شتّى، لكنها تنتمي لروح واحدة تجعل الغريب مألوفًا، والبعيد قريبًا، والاختلاف زينةً لا جدارًا.
تجلّت “تمغربيت” في مدرجات بطولات كأس العالم في كرة القدم كموجات من الفخر والانتماء.
لم تكن الجماهير المغربية مجرد مشجعين، بل سفراء لهوية جامعة؛ بأهازيجهم، وأعلامهم، ونشيدهم الوطني الذي أبهَر العالم، جسّدوا وحدة الوطن وتنوّعه، ووهبوا الوطن نبضهم، مؤكدين أن “تمغربيت” تتجاوز الجغرافيا لتعيش في التضامن والمعنى الذي نحمله أينما كنّا.
هكذا، لم تكن “تمغربيت” مجرد هوية تُروى، بل لحنًا إنسانيًا نابضًا، نفسًا أخلاقيًا يربطنا ويقاوم النسيان. جوهرها انسجام عميق يتجسد في تمازج الهويات حولها، كأنها يد الصانع التي تنسج ألوان الزليج بتناغم صامت.
ولأن الفسيفساء لا تكتمل بلون واحد، كانت “تمغربيت” مرآة لتعدّدٍ لا يُقصي أحدًا، بل يحتضن الكل.
العربي حافظ على لغته وتاريخه، الأمازيغي ظلّت لغته شجرة تورق، الحسّاني حمل دفء الجدّات، والموريسكي تجاوز ألمه دون أن يفقد ظله، أما اليهودي المغربي، فلم يعرف في بلده منفى.
“تمغربيت” ليست ملكًا لفئة، بل هي سؤال حيوي: كيف نحمي روحنا المغربية من الانغلاق، ونتعايش مع العالم دون أن نفقد تميّزنا؟
في وجه عولمة جارفة، كيف نُبقي حكاية الجدة حيّة وسط طغيان الشاشات؟
كيف نُبقي الزليج حيًّا في زمن السرعة، والبرّاد حاضرًا في زمن القهوة المحمولة؟
كيف نحيا بسَمت الأجداد دون أن نُغلق النوافذ على المستقبل؟
تلك الحوارات، في جوهرها، كانت لحظات كاشفة لا تُقاس بالكلمات.
فلسنا في معركة بين قديم وجديد، بل نقف على ضفافٍ متقابلة: هنا ذاكرتنا الجماعية بكل ثرائها… وهناك زحام العولمة وصراعها.
فهل نملك الشجاعة لنكون الجسر بين الضفتين؟
أن نُمسك جذورنا بيد، ونُصافح العالم باليد الأخرى، دون أن نفقد توازننا؟
في قاعة هادئة تنبض برمزية التاريخ، اجتمع أبناء الوطن حول مائدة مستديرة، كما الوطن نفسه الذي لا يُختزل في حدود، بل يسكن في الوجدان.
جلست “تمغربيت” في موقع الأم، لا فوقهم بل معهم، تُسيّر النقاش بحكمة العارفة، وتدع كلّ واحد يُنصت للآخر، لا لتوحيد الأصوات، بل لصون اختلافها داخل دفء الانتماء.
جلسوا بصمت مهيب، يتأملون وجهها وهي تتقدّم بخطى واثقة، في هيئة امرأة مغربية يشعّ منها دفء الانتماء. رفعت بصرها، وقالت بصوت يشبه دعاء الجدة عند الفجر:
أُقبل الآن على سماع صوتكم وأحلامكم. تحدّثوا، فأنا هنا لأصغي، لا لأحكم؛ كي نعيش معًا في وطن يعتزّ بتعدّد هوياته.
ثم التفتت إلى العربي المغربي وقالت:
“أنت، يا من تنبض جذورك في هذه الأرض، تحدّثني عن هويتك، وكيف تحيا في قلب المغرب”.
العربي المغربي يهمّ بالكلام:
أنا جزء أصيل من هذه الأرض، نبتُّ منها كما ينبت القمح في سهل الشاوية.
جذوري تمتدّ في الحقول، في رائحة النعناع، في الأغاني التي تُغنّى وقت الحصاد، وفي قصائد العيطة التي توحّد الجموع.
أفتح بابي للضيف بالشاي والكسرة، لأن الكرم فطرة عندي.
لستُ كلّ المغرب، لكنني من المغرب، أفتخر بهويتي، وأحتضن الآخرين بصدر رحب.
عربيٌّ أنا، لكنّ جذوري امتزجت بتراب هذه الأرض حتى صار نبضي لغة السماء والأرض.
تاريخي ليس سيفًا، بل ريشة كتبت: “هنا نعانق الاختلاف كإخوة”.
ابتسمت “تمغربيت”، ثم خاطبت الأمازيغي وقالت:
“والآن، أخبرني أنت، يا من تحمل صدى التاريخ في جبالك، كيف تحافظ على لغتك وهويتك وسط هذا التنوّع؟”
الأمازيغي يتقدّم بحديث القلب:
أنا ابن هذه الجبال، أسمع صدى أجدادي في الريح، وأقرأ تاريخي في النقوش الحجرية، وفي رقصات أحيدوس وأحواش عند اكتمال القمر.
لا أبحث عن تفوّق، بل عن احترام؛ أن تكون لغتي مسموعة، وذاكرتي محترمة، ووجودي واضحًا لا مخفيًّا في الهامش.
أُصافح العربي، والموريسكي، واليهودي، والصحراوي، لكنني لا أذوب، بل أبقى كما أنا: جذورًا، صبرًا، وهويةً صامدة تحت شمس بلادي.
أمازيغيٌّ أنا، أحمل صخور الأطلس في صوتي. لغتي ليست حجرًا يُرمى، بل نبعٌ يغسل وجع النسيان.
لستُ ظلًّا لأحد – فأنا الجبل الذي يستظلّ به الجميع.
ثم وجّهت كلامها إلى الموريسكي وقالت:
“أما أنت، يا من تحمل تراث الأندلس وحكايات الغربة، فشاركنا قصة وجودك في هذا الوطن الذي احتضن أحلامك.”
صوت الموريسكي يخرج من عمق الهوية:
أنا سليل تراث أندلسي هُجِّر من غرناطة، لكن صوته ما زال يتردّد في ترانيم جدتي التي كانت تطهو بدموع لا يفهمها أحد.
حين احتضنني المغرب كأم تعيد ابنها الضال، علّمني أن التعدّد ليس ذوبانًا، بل انصهارٌ يخلق وحدةً في الاختلاف.
تعلّمت منكم التعايش، والاحترام، والحب.
حين كنت غريبًا، احتضنني المغرب كأمٍّ تحتضن ابنًا ضلّ طريقه.
وما زال قلبي ينبض في هذا الوطن.
موريسكيٌّ أنا، حاملٌ نوستالجيا مآذن إشبيلية.
جُرّدت من أرضي، لكنّي لم أفقد فنّي؛ ففي زخارف الزليج وعبق الطنجية أبقيتُ روح الأندلس حيّة.
جئتُ ليس كلاجئ، بل كحكاية تنسج نفسها في نسيج هذا الوطن.
تنهدت “تمغربيت”، وأملت عينيها نحو ابن الصحراء وقالت:
“والآن، إليك، يا من تنتمي إلى الصحراء الواسعة، حدّثني عن الروح التي تربطك بها، وعن صبرك في وجه الصعاب.”
يتقدّم الصحراوي بحديث القلب:
أنا ابن الصحراء، لا أحتاج جدرانًا لأثبت وجودي. يكفيني ظلُّ نخلة ورفقةُ نجمة، وصوتُ الرمل حين يحكي عن مَن مرّوا ذات قيظ.
كل خطوة على الرمال قصة، وكل ريح درسٌ في الصبر والكرامة.
أنا الصحراوي، ابنُ الرمل الذي يُعلّم الصبر. جذوري تمتدّ تحت الكثبان كشبكةِ حياة خفية.
حين أتكلم، لا تُسمع كلماتي فقط، بل تُلمس كحرارة شمس المغرب على الجلد.
رمالي تحمل أخبار القوافل من تمبكتو إلى مراكش، ودمي يمزج الصحراوية بلغات الساحل.
انتمائي ليس حدودًا جغرافية، بل ذاكرة تجمع التيدنيت والسوننكي تحت سماء واحدة.
حين حاول البعض أن يفصلني عن وطني، ظللت مشدودًا إليه بحبل من هواء، متشبثًا بانتمائي كما تتشبث النخلة بجذورها في وجه الريح.
ثم التفتت إلى اليهودي المغربي وقالت:
“وأنت، يا من تحمل أنوار الملاح وتاريخ التآخي، شاركنا نغمتك وأصالتك التي تزين وجدان هذا الوطن.”
من صمت الجذور يتكلّم اليهودي المغربي الآن:
أنا شمعةُ سبتٍ لا تنطفئ في زوايا الملاح، حيث تتعانق الترانيم مع الأذان في انسجامٍ خالد.
حملتُ في قلبي دفءَ “دار جدي” قبل “أورشليم”، ولم أكن يومًا ضيفًا على هذه الأرض، بل خيطًا رفيعًا ينسج نسيج هذا الوطن العتيق.
أُعيّد مع جاري المسلم، ويبارك لي هو في طقوسي، دون حاجة إلى كلمات كبيرة.
لا أبحث عن مكانٍ لي في هذا الوطن، بل أذكّره دومًا أننا كتبنا صفحاته معًا.
بعد كل صوت، جاء صوتها… لا ليُضيف، بل ليضمّ الجميع.
ها نحن قد جمعنا أصواتكم، لنسمع نبض وطن واحد، وروحًا واحدة تحت سماء المغرب، حيث يتلاقى الجميع في حب وعيش مشترك.
خَيّم هدوءٌ طويل بعد أن اكتمل الحديث، ليس صمت النهاية، بل صمت التأمل.
نظرت “تمغربيت” إليهم جميعًا، وقد اجتمعوا على طاولة لا تُقسم ولا تُحد، وقالت بصوت يشبه النسيم:
“هكذا أراكم دائمًا:
مختلفين في اللسان، موحّدين في الروح.
متعدّدي القصص، لكنكم أبناء قلبٍ واحد: هذا الوطن.”
همسات الزمن في أناملها
سكنت القاعة فجأة، ليس لأن الكلام انتهى، بل لأن الجميع أحسّ أن شيئًا أعمق قد قيل. لم تكن “تمغربيت” فكرة تُناقش، بل إحساسًا تسلّل إلى النظرات، وتشبّث بالأكتاف، كأنها تقول:
“أنا هنا… حيث يلتقي اختلافكم ليصنع وطنًا واحدًا.”
في ذلك الصمت المهيب، تجلّت الحقيقة جليّة: إنّ تنوعنا لا يفرّق كياننا، بل يشكّل رصيدًا غنيًّا يُثري وطننا.
كانت كلمات أبناء تمغربيت خيوطًا في نسيج واحد، كألوان الزليج المغربي:
العربي بخصوبة السهل وكرم لا يسأل عن الأصل،
الأمازيغي بصمود الجبل وهويّة لا تذوب،
الموريسكي بحنين الأندلس ودفء العائد،
الصحراوي بحكمة الرمال وصبر الصحراء،
واليهودي بذاكرة حيّة تشهد أن العيش المشترك قاعدة لا استثناء.
هكذا رُسمت صورة الوطن: تنوّع لا يذيب، بل يُغني ويثري.
تمغربيت ليست لافتة تُرفع، بل نسيجًا حيًّا تنسجه الاختلافات، تمنحها عمقًا جديدًا.
كل صوت يحمل جزءًا من الذات المغربية: متباينة لكنها منسجمة، متفرعة لكن متجذّرة.
ومن مجموع هذا التنوع، تبلورت “تمغربيت” كجواب حيّ، لا كسؤال نظري:
امرأة لا تُختزل في وجه واحد، بل تتجلّى في كل الوجوه، وتعيش في الأصوات التي تعرف كيف تختلف دون أن تنفصل.
هكذا كان الوطن: لا يبحث عن تعريف، بل يُجسّد الجواب ذاته.
هو ما يجمعنا رغم اختلافاتنا؛ تنوّع يوحّد، لحمة حقيقية بين الأديان واللغات، قصيدة تُكتب بالتعاون والمحبة.
وفي تلك اللحظة، بدا الزمن وكأنه توقّف ليؤكّد: المغرب وطن لا يعرف الانقسام، وطن يصنعه الجميع كل يوم.
ساد صمت عميق، لم يكن ختامًا، بل بداية إدراك جماعي أن تمغربيت ليست شعارًا يُرفع، بل أمٌّ تتكلم من عمق الروح، تُنصت ثم تهمس، تُربّت على الاختلاف كما تربّت الأم على أكتاف أبنائها.
حين تتحدث الهويّات بلغة القلب، يتحول الانتماء إلى نبض يُشعر به، لا يُناقش.
ومع إحساس يملأ الصدر، أملت “تمغربيت” بصرها نحو العربي، تحمل في نظرتها قصة انصهار وحلم مشترك.
فكيف لا تكون كذلك، وأنت يا عربي، حين جئت من الشرق، حملت الحلم لا الغزو، كأنك تفتح لنا بابًا لنرى دخولك المغرب كلحظة انصهار؟
وجدت فيه أرضًا تحتضن الجميع، وشاركت في بنائه بروحٍ جديدة.
وأنت يا أمازيغي، ذاكرة الأرض التي سبقت التاريخ، لم تغلق بابك على ذاتك، بل مددت يدك للجميع، تحمل الأرض في قلبك وتشارك حكمتها.
وأنت يا موريسكي، رغم التهجير، لم تنفصل عن هذا الوطن. حملت من غرناطة الفن والتاريخ، ووجدت هنا حضنًا لحكاياتك التي أصبحت جزءًا من هذا البلد.
وأنت يا حسّاني، علّمتنا أن الصحراء ليست عزلة بل حكمة. روحك الحرّة لا تعرف القيود، وتدعونا للتأمل والتعايش.
وأنت يا يهودي مغربي، رغم صمتك، أنت نسيج حيّ في هذا الوطن.
صلاتك في الكنيس ودفء دعواتك في المسجد يذكرانا أننا نعيش معًا، ونتقاسم الهمّ والفرح.
كان الجميع يتكلم، لكن من كان يخاطب من؟
في العمق، كانت “تمغربيت” الأمّ هي من تتحدث، بصوت أبنائها جميعًا، توزّع كلماتها كحنانٍ قديمٍ يسكن الذاكرة.
وحين هدأ الصوت، لم يترك الصمت فراغًا، بل امتلأت القلوب بإحساس عميق.
لم تكن الخطب نهاية، بل بداية لحوار جديد، حيث تقدّم كل منهم ليكمل معنى الجلسة.
تحدث أحدهم عن جذوره التي صمدت رغم الزمن، وآخر عن لغة أمه التي بقيت حيّة في وجدانه، وثالث عبّر عن مخاوفه من أن يُفهم اختلاف هويته كخلاف، رغم كونها امتدادًا للجميع.
وهكذا، في حضرة تمغربيت، لم يُبحث عن تعريف للوطن، بل وُلد شعور مشترك بأننا لسنا أجزاء متفرقة، بل نَفَسٌ واحد في جسدٍ متعدّد، يحتفي بالاختلاف ليحيا به.
الحديث لم يكن سباقًا، بل نسجًا مشتركًا، كل عبارة تسند الأخرى، وكل نظرة تحمل ألف اعتراف.
كانوا يرفعون كلماتهم مثل شموع صغيرة، لا تحرق، بل تضيء الزوايا المنسية.
ثم وقف الجميع، كلماتهم لم تكن خُطبًا، بل شهادة حيّة على أن “تمغربيت” ليست شعارًا، بل واقع نعيشه، وهو ما يجعل هذا الوطن واحدًا من تنوّعه.
نغمات الوحدة.. وعد الفجر للتماسك والعيش المشترك
عند المآل، نظرت “تمغربيت” إلى الجميع بنظرة مليئة بالإعجاب والفخر، ثم قالت:
اقترب الوقت من النهاية، وقبل الختام، أُتيح لكلٍّ منكم فرصة للتعبير عن مشاعره بكلمة صادقة، تعكس ما يشعر به الآن، ليكون ختامنا مليئًا بالمعنى والاحترام.
ابتدأ العربي، وارتعش صوته عميقًا:
“ليس الشاي بالنعناع كأسي اليوم، بل نبعٌ من أرواحكم…
لأمّنا تمغربيت،
يا من جعلتِ الحوارَ حقل قمحٍ لا ساحة حرب،
وصوتَ الحكمة والعمق الذي دفعنا لإعادة التفكير في مسلّماتنا.
للأمازيغي،
كلماتك كانت جبالاً تمنحنا الظلّ والحكمة،
وحضورك القوي ونقاشك فتح لنا آفاقًا جديدة للفهم والتعايش.
للموريسكي،
أحضرتَ غرناطة في جراب الذاكرة، فأنبتت زيتونًا في صحننا،
نفَسك الأندلسي أضاف للنقاش نكهة خاصة، وأعمق رؤيتنا للتعدد والتعايش.
لليهودي،
صرتَ شمعة في محرابنا، نراها في عيون الجيران حين يمرضون،
كلماتك صادقة ولامست القلب، جددت فينا الإيمان بأن المغرب أرض لكل أبنائه بلا استثناء.
ولنا جميعًا،
خبزنا واحد، وإن اختلفت اليد التي عجنت العجين،
فنحن معًا نبني جسور الوحدة بين الماضي والحاضر، بين التقاليد والحداثة.
ولا أنسى حضوركم الكريم، فقد ساهمتم بالاستماع، وبالصمت، وبالاحترام. إن هذا النقاش ليس نهاية، بل هو بداية لمزيد من الفهم والتلاقي.
كلمة الحساني
(وقد وضع يده على قلبه، ونبرته يغمرها وقار الصحراء وصدق الانتماء):
شكرًا لأمّنا “تمغربيت” التي جمعتنا دون إقصاء، فكانت روح الوطن المتعددة التي لا تُختزل في لسان أو عِرق.
وشكرًا لإخوتي الأربعة، الذين لم يكونوا مجرد أصوات، بل مرآة لما نحمله في قلوبنا من حب لهذا الوطن.
كلّ واحد منكم قال ما يشبهنا، وأنا الحساني أقول: الوطن يُبنى بالأيادي المتّحدة.
أمازيغي، كلماتك حملت صدى الجبل، وعبق الأرض التي لم تتوقّف عن البوح. فيك رأيت الحكمة المتجذّرة، التي لا تصرخ، بل تهمس، ومع ذلك تُسمع. لقد جعلتنا ندرك أن جذورك ليست في الماضي فقط، بل في المستقبل أيضًا، لأنك تنسج التعايش بوعي وإيمان.
عربي، فيك سمعت التواضع، والرغبة الصادقة في الانتماء دون تعالٍ، والانخراط في النسيج الوطني بروحٍ تُنكر الأنا وتؤمن بالجميع. كنت صوتًا لا يعلو على أحد، بل يعانق كل الأصوات بحب واحترام.
موريسكي، جراحك لم تُضعفك، بل جعلت منك جسرًا. أتيت من الغربة لا طالبًا مأوى، بل حاملًا نورًا أندلسيًا أضاء زوايا من ثقافتنا، فصرنا نراك في زخرفة المساجد، في نغمة العود، وفي دمعة الشوق التي لا تجف.
يهودي، كنت ولا زلت شاهدًا على أن العيش المشترك ليس حلمًا، بل حياة نحياها. حديثك عن الفقد والحنين وعن الجار المسلم الذي بكيت معه، اختصر ألف كتاب. لقد كنت، وما زلت، خيطًا ناعمًا في نسيج الوطن، لا يراه من لا ينظر بقلبه.
أما أنا، فأنا ابن الصحراء، لا أملك البلاغة ولا الخُطب، لكني أقول بصدق: “تمغربيت” التي سمعناها اليوم ليست شعارًا، بل هي فينا، نعيشها حين نمد يدنا دون خوف، حين نفتح بيوتنا دون تردد، وحين نقول لهذا الوطن: كلّنا لك، بكل اختلافاتنا، بكل حبّنا، بكل ولائنا.
كلمة اليهودي المغربي
(وقد نهض ببطء، صوته رخيم، يحمل مزيجًا من الوقار والدفء، ونظرته تلمع بدهشة الاعتراف):
أولًا، شكري العميق لأمّنا تمغربيت، ليس فقط على كلماتها، بل على ما أيقظته فينا من شعور أننا أبناء هذا الوطن، بكل لغاته وذكرياته. كنتِ الجسر الذي قرب بيننا، وجعل من اختلافنا مصدر قوة لا خوف.
ثم أمدّ يدي بالشكر لإخوتي الأربعة، الذين ما سمعناهم إلا وقد انكشفت أمامنا خيوط هذا النسيج المغربي، الغني، المتداخل، والمتآلف:
أمازيغي، حديثك عن الجذور والجبال جعلني أراك لا كرمزٍ للماضي، بل شريكًا في الحاضر، يحفظ الذاكرة ويحتضن التجدّد. فيك رأيت صمود الصخور ورحابة القلب.
عربي، شكرك كان دفئًا يشبه العناق، وتواضعك دلّ على إيمانك بأن التعدد نعمة تُعاش وتُختار، لا تُفرض.
موريسكي، قصتك أعادتني إلى جدّي الذي رأى في الأندلس حياة لا حنينًا. جئت لاجئًا، فصرت مرآةً لنا، وصوتك وسمٌ لا يُمحى في وجداننا.
حساني، في صوتك سمعت الريح، وفي عينيك رأيت الوفاء. أنت في قلب الوطن، لا في هامشه، وبيعتك ممارسة نابعة من أرضٍ لم تخن.
أما أنا، اليهودي المغربي، فما سمعته منكم يؤكد أني لم أكن غريبًا أبدًا. كنت أضيء شمعة الجمعة، أُقرض جاري المسلم، وأبكي على فقير الحي كأنه أخي.
إن “تمغربيت” ليست دعوة للتشابه، بل احتفالًا بالتعدد، اعترافًا بأن الوطن الكبير يتّسع للجميع إذا سكنه العدل، وإذا خفّفنا أمتعتنا من الشكّ والخوف.
فشكرًا لكم، إخوتي، لأنكم جعلتم من هذا اللقاء مرآةً صادقة… نرى فيها أنفسنا، دون أقنعة.
أما أنا، فصوتي ليس غريبًا عنكم، بل خيط من خيوط هذا الدفء الواحد.
ومن ذاك الدفء، سكنت الكلمات، لكن الأرواح ظلّت تتحاور في صمتٍ شفيف.
أنا تمغربيت… فاسمعوا لحنها فيكم.
(وقد وقفت شامخة، بصوت هادئ لكنه نافذ، وعيناها تتنقلان بين وجوههم بحنوّ أمٍّ واعتزازٍ مؤسسة):
أيها الأحبة… أنتم الأبناء الذين ارتويتُ بكم كما ترتوي الأرض بعد الجفاف.
لم أكن سوى فكرة في عيونٍ تنظر بمحبة، وفي يدٍ تمتدّ لتعانق لا لتصفع.
اليوم، سمعنا ما يطمئن القلب: أنني لست وهمًا، بل حقيقة زرعها التاريخ وسقاها الوفاء.
أثبتم أن المغرب ليس مجرد أرض، بل روح تسكننا جميعًا، نعبّر عنها بلغات وألوان متعددة، وننتمي في النهاية لوطن علّمنا أن التعدد غِنى، وأن الحب أقوى من الخوف.
أبناء المغرب، أنتم لستم فصولًا متفرقة، بل سطورًا في كتابٍ واحد عنوانه “الوطن”.
ولعلّ أجمل ما قيل اليوم، لم يكن في الكلمات، بل في الصمت الذي تلاها.
ذلك الصمت الذي لا يُعبّر عن نهاية، بل عن إدراك عميق: أن ما يجمعنا أقوى بكثير مما قد يُفرقنا.
فلنخرج من هذه الجلسة لا فقط باعترافٍ متبادل، بل بوعد… وعد أن نحمل “تمغربيت” في سلوكنا، لا في شعاراتنا.
أن نحرسها كما يُحرَس الضوء في زمن العتمة، لأنها ليست لي وحدي، ولا لكم وحدكم… بل لنا جميعًا، ولمن سيأتي بعدنا.
وبينما كانت الشمس تميل للغروب، نظرت تمغربيت إليهم وابتسمت، ثم همست:
يلهو الطفلُ بجاره دون أن يسأل عن أصله، فاعلموا أنني هناك.
في تلك النظرةِ البريئة يُختصرُ معنى الوطن: نبعٌ واحد، وأنهارٌ لا تُفرّق.
فالاختلاف لا يُقصي، بل هو دعوة للإصغاء والاحتضان، ليصبح التعدد مصدر غِنى لا مَثار خلاف.
هكذا تولد “تمغربيت” في القلوب قبل الكلمات: جذور ضاربة في التراب، وأغصانٌ تمتد بثقة نحو سماء العصر الرقمي.
تمغربيت: جذور في التراب وأغصان في سماء الرقمية
كان الشاب جالسًا قرب نافذته، يُحدّق في جهاز حاسوبه.
انفتح محرك البحث غوغل على شكله المألوف، فكتب بتردد:
“كيف نكون أبناء تمغربيت… في زمن لا يترك لنا وقتًا لنكون؟”
فتلقى جوابًا دافئًا:
“تمغربيت شجرةٌ: جذورها في التراب، وأغصانها تمتد إلى الفضاء الرقمي.
تعانق الحكاية روح الزمن، لا تذوب مع تغيّر الأوجه، بل تنبض في القلب، وتُضيء الشاشة بضوء الذكرى.
وبينما هي تتكلم، مدت يدها نحو الطاجين، التقطت حبّة زيتون، ورفعتها كرمزٍ لكل مذاقٍ وحكاية تتداخل في نسيج الوطن.
“انظروا… عربية الطعم، أمازيغية الزرع، أندلسية التخليل، يهودية التقديم، وصحراوية الصبر.”
“تمغربيت” هي أن نقتسم الخبز والاختلاف، أن تتكامل نكهاتنا كما يتكامل الطاجين… بهدوء، وبلا استعلاء.
فيا تمغربيتُ، يا نَغمةَ الجدّاتِ في السَحرْ
ويا دفءَ الكانونِ إذا اشتدَّ المطرْ
نسجتِنا من صبرِ قصيدةٍ، ومن أملِ حجرْ
فنمشي بكِ، لا نخافُ التيهَ… ما دمتِ أنتِ الجذَرْ.