Table of Contents
محمد التاودي
نكهات تحكي حكاية الأزمان، وتجربة إنسانية تلامس القلب قبل الشفاه. فالكسكس ليس مجرد طبق، بل ذاكرة حية ودفتر أسرار، وشاهد على الأعراس والأفراح، ومجالس الصلح والوصال.
يتخطى حدود المائدة ليصبح رمزًا للهوية والروابط الاجتماعية، وخيطًا يربط بين الأمس واليوم. رغم تحديات العولمة، يظل جسرا قويًا يجمع المجتمعات المغاربية بجذورها، معززًا هويتها المتجددة والمتعمقة عبر الأجيال.
وتذوب المسافات بين القلوب كما تذوب الدهون الذهبية في مرق الخضر، وكأن المائدة تتحول إلى مسرح حي تُروى فيه القصص قبل أن تُسكب المرقات، وتُستعاد فيه الصداقات قبل أن تلتقي الملاعق.
الكسكس رفيق العمر
وفي سياقٍ يعكس هذا الترابط العميق، يصف الكاتب والباحث في فنون المطبخ في شمال أفريقيا، جيف كوهلر، في مؤلفاته مثل “مطبخ شمال أفريقيا” ومقالاته في مجلة “عالم أرامكو”، أن الكسكس يتجاوز كونه طعامًا تقليديًا ليصبح رفيق عمر لأهل المغرب العربي؛ يولد معهم، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويجمعهم دائمًا حول وعاء واحد كحضن الأسرة الكبير.
ذاكرة متوارثة وهوية عميقة
وهكذا، يتجلى الكسكس كذاكرة تتوارثها الأجيال، ومرآة تعكس العادات والطقوس، وعنوانًا لهوية غذائية تتجاوز حدود الزمان والمكان، ليظل شاهدًا على دفء اللقاءات وعمق الروابط الإنسانية.
رحلة عبر الزمن: من الأندلس إلى المغرب
ومن هنا تبدأ رحلته عبر الزمن، فبحسب مخطوطات ابن رزين التجيبي في القرن الثالث عشر، ينساب ضوء الكسكس على موائد المغرب والأندلس، حاملاً دفء الماضي وكرم الضيافة، كجذور شجرة مباركة تمتد عميقًا في تربة التاريخ ونهلت من ينابيعه الأولى.
ومن هذه الأرض الخصبة بالتراث، حمله التجار عبر زرقة المتوسط من موانئ الجنوب إلى ضفاف الشمال، حتى رسى في صقلية وإسبانيا، حيث أضافت المطابخ المحلية لمساتها الخاصة، لكنه ظل محتفظًا بروحه الأصيلة وببصمته التي تهمس في ذاكرة الشعوب مع كل ملعقة.
ومع أشرعة التجار العرب، أبحر من موانئ القيروان وطرابلس، حتى رست به السفن على شواطئ صقلية حاملاً عبق الجنوب. هناك، احتضنته موائد الجزيرة وألبسته ثمار البحر وصلصات الطماطم، خاصة في مدينة مازارا دل فالو التي لا تزال تحتفظ بأصالة وصفاتها التقليدية.
في الأندلس، حظي الكسكس بمكانةٍ خاصة، فزُيِّن أحيانًا بالعسل واللوز والفواكه المجففة في موائد النخبة، بينما ظلّ في بيوت العامة طبقًا للكرم يجمع الأهل والجيران، معبرًا عن الضيافة وروح المشاركة.
واليوم، تحيي بعض العائلات الصقلية والإسبانية ذكرى هذا المذاق العابر للبحار، فتقدمه في الأعياد كجسر يربط بين ضفتي المتوسط، حيث تمتزج الحكاية بالمذاق، وكأن الأمس ما زال يمد خيوطه إلى الحاضر، حاملاً عبق الذكريات عبر الأمواج.
حين صافح الكسكس ذاكرة العالم
ومن هذا الامتداد العابر للحدود، جاء اعتراف العالم بمكانة الكسكس. ففي عام 2020، رفعت اليونسكو هذا الطبق إلى مقام التراث الإنساني، إقرارًا بأنه ليس مجرد نكهة، بل رسالة سلام وتلاقي، تجمع شعوب المنطقة على حبّ الأرض ومواسمها، وتحتفي بقدرته على توحيد الأذواق في احتفال جماعي، حيث يصبح الطعام لغةً عالمية تنسج خيوط الود بين الشرق والغرب.
الكسكس… نكهة الحكاية وروح الزمان
ومن الاعتراف العالمي إلى دفء الحكايات المحلية، يواصل الكسكس رحلته كأكثر من طعام؛ إنه ذاكرة حية، ودفتر أسرار، وروابط تمتد عبر الزمن في حضرة الجمع. ولم يكن الكسكس يومًا طعامًا عاديًا يُقدَّم، بل كان شاهدًا على أعراسٍ وأفراح، ومجالس صلحٍ ووصال حميم، يحمل في طياته أسرار الزمان والمكان. فهو همزة وصل بين أيام خلت وأوقاتنا الحاضرة، يوحّد الأرواح بدفء المشاركة وروحها.
وفي كل بيتٍ، يتألق الكسكس يوم الجمعة كرمز للترابط الاجتماعي، حيث تتصاعد من «الكسكاس» روائح سبعة خُضر تتناغم معها الأرواح، وتذوب معها الخلافات الصغيرة بين الأفراد، فيتحول الغداء إلى طقس يجمع القلوب قبل الملاعق.
فالكسكس… مرآة البيوت وطقوس القلوب، لكنه ليس دائمًا مسرحًا للطمأنينة والفرح العائلي؛ ففي بيوت أخرى، تصبح هذه الوجبة العريقة أول اختبار للعروس الجديدة، حيث تُقاس مهارتها في تحضير هذا الطبق المميز، وتُحدَّد مكانتها بين نساء العائلة. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل ستزين الخضر بدقة في دوائر متناظرة كما اعتادت جدات الحي؟ أم ستضفي لمستها الخاصة، تلك التي قد تفتح لها أبواب القبول أو الخلاف؟
وحتى في لحظات الفراق، يظل الكسكس حاضرًا كرسول للراحة، حيث يُحضَّر عند فقدان أحد الأحبة، ليخفف من وطأة الألم، ويجمع العائلة حول دفء الذكريات. وفي هذه اللحظات الصعبة، يصبح أكثر من طعام، بل تعبيرًا عن الحنان والتماسك، وجسرًا يربط بين الحزن والأمل.
حين يلتقي الجمر بالقلوب: رجال وشباب على مائدة الكسكس
ومع أن تحضير هذا الطبق كثيرًا ما يُنسب إلى النساء، إلا أن الحكاية أوسع من ذلك بكثير؛ ففي بعض البيوت، يشارك الرجال بحماس في تحضير المرق، يقطّعون الخضر بدقة، ويشعلون النار تحت القدر كما كان يفعل الأجداد في المواسم الكبرى، لتصبح لحظة الإعداد عملاً جماعيًا يوحّد أفراد الأسرة حول طقس واحد.
ولا يختلف الحال في المدن الحديثة، حيث يعيد الشباب اكتشاف هذا التراث العريق بروحٍ جديدة، فيتبادلون الوصفات عبر الإنترنت، ويبتكرون طرقًا مبدعة لتقديم الكسكس على موائد معاصرة، محافظين بذلك على روح الجدات التي تتغلغل في كل لقمة، وواصلين خيوط الماضي بالحاضر بحب ووفاء.
الكسكاس: نافذة البخار إلى ذاكرة الكسكس
سفير النكهات يُعَدّ تحفة فنية بحد ذاته؛ طنجرة كسكس من الألمنيوم اللامع مثقوبة كعيون السماء، تستقر بهدوء فوق قدرٍ واسع. تلك الثقوب الصغيرة تسمح للبخار بأن يعانق السميد بلطف، كأنها بواباتٌ سرية تدخل من خلالها الروح إلى قلب الطبق.
ألوان الكسكس… سيمفونية على مائدة الفرح
ومتى اكتملت رحلة البخار وامتزجت الحبات بعبق المرق، تنتقل الحكاية من قدر الطهي إلى قلب المائدة، حيث تبدأ سيمفونية الألوان. على المائدة، تتراقص ألوان الخُضَر السبع في عرض بصري ساحر؛ فالكوسة الزاهية تقابل الجزر الناري، واللفت الأبيض يقف كابتسامة شتوية، بينما يُكمل القرع الأحمر والملفوف الأخضر والباذنجان البنفسجي والحمص الذهبي دائرة الألوان كإيقاع متناغم في لوحة الطبيعة.
خضر المواسم… نغمة الأرض في لحن الاستدامة
هذا الطبق، في جوهره، ابن الأرض الحنون، إذ تنبثق مكوناته من خيراتها العفيفة. فخضرواته الموسمية – الجزر والقرع واللفت – تُقطف من حقول محلية تُروى بماء الأمطار أو من الآبار العتيقة، لتصل إلى المائدة وهي تحمل عبق التربة ونقاء الطبيعة.
ولا يقتصر الأمر على المذاق فحسب، بل إن تحضيره يحمل في طياته حكمة الاستدامة؛ حيث لا يُهدر شيء، بل يُستخدم كل جزء من الخضر، ويُعاد تدوير المرق في أطباق أخرى تُغني المائدة وتزيدها سخاءً. وهكذا، وفي زمن التحديات البيئية، يُذكّرنا الكسكس بأهمية التوازن مع الطبيعة، وكيف يمكن لمائدة واحدة أن تحترم الأرض وتغني القلوب في آنٍ واحد.
كنوز السميد المخفية
تمتزج حكمة الأجداد بفوائد صحية معاصرة، فحبات السميد – الغنية بالسيلينيوم والألياف – تحرس الجسد وتُسهم في بناء مناعة قوية، لتصبح قصة الكسكس نغمة حياة متوازنة تنبض فيها روح الأجداد وحيوية الأجيال الجديدة.
وتأتي حبات السميد الصغيرة، كؤوسًا من المعادن النادرة، لتنثر الحماية في جسد الإنسان، وتعزف ألحان المناعة، وتخفف عن الروح أعباء الأمراض. كما تنسق الألياف فيه، كأوتار هادئة، إيقاع الجسد فتُشعره بالسلام الداخلي، فيما تتكفل البروتينات النباتية ببناء أسوار القوة، كالأيادي التي تنسج قصص التراث.
ولا تتوقف فوائد الكسكس عند هذا الحد، فخضرواته الموسمية تمثل كنوز الطبيعة المزهرة بألوان الفيتامينات والمعادن، ومضادات الأكسدة التي تحرس القلب، وتحيط بالمناعة كسوار من نور.
وفي مرونة الكسكس تكمن حكمته أيضًا، إذ يمكن له أن ينسجم مع كل زمن وكل نظام غذائي، سواء عبر تقليل الدهون أو استبدال اللحم بالبروتين النباتي، ليكون حليف النباتيين ومحبي الصحة على حدّ سواء.
ومع ذلك كله، يبقى من الحكمة أن يتناول مرضى السكري الكسكس بحذر، وتحت إشراف الطبيب، حفاظًا على التوازن الصحي.
يظل الكسكس قصيدة مطهوة بلذة وحكمة، تجمع بين دفء التراث ونبض الحاضر، وتروي في كل لقمة قصة حياة تتجدّد، وتحكي سيرة حب لا ينتهي.
أنفاس البخار وقصص التعب في تهيئة قصعة الكسكس
ولكي تُكتب هذه الحكايات، لا بدّ من صبرٍ في التحضير؛ فالجدات علّمن أن الكسكس ليس استعجالًا، بل دفء يتسلل إلى الحبة وهي تُفرك بين الكفين مع قطرات الماء. ذلك الصبر يجسّد روح اللقاء، ففي كل جمعة أو صباح عيد، تجمع القدور الكبيرة ما فرّقته الأيام من إخوة وجيران وأقارب.
حين يجتمع الحلو والمالح: قصة التفايا
وبينما تنضج اللحظات، تُسكب «التفايا» (صلصة البصل الحلوة المُكرملة) فوق اللحم، لتلتقي نكهات الحلو والمالح كما تلتقي القلوب بعد طول غياب. وتتحول المائدة إلى منبر للحب والصفاء والتواصل، حيث يغدو الكسكس أكثر من طعام؛ إنه خريطة للانتماء وذاكرة مشتركة توحد الأفراد والمجتمعات في لوحة من نكهات وأحاسيس لا تُنسى.
خيط الذاكرة: الكسكس في الغربة
حين تُبعِد المسافاتُ الأوطانَ، يبقى الكسكس خيطَ الذاكرة الذي ينسج دفء اللقاء بين شتات المغتربين. من باريس إلى مونتريال، وفي زوايا شقق الضواحي، تُستعاد ذكريات الأسواق القديمة، وعبق القرى، فتذوب الحواجز، ويحتضن القلب دفء الوطن رغم البعد.
وعلى الرغم من أن الكسكس يُعد هناك بما تيسر من مكونات، إلا أنه يحمل نفس الروح؛ فرائحة التوابل تُعيد إليهم أصوات الأزقة، ودفء المرق يُذكرهم بليالي الجمع العائلي. إنه ليس مجرد طعام، بل وطنٌ محمول في القلب.
شذى التراث يتحدى العولمة
مع غروب الحديث وغسل الأطباق، يبقى الكسكس في الذاكرة ليس مجرد وجبة تُشبع، بل حدثًا سرديًا يربط الشخصيات ويُنسج خيوط العلاقات الدافئة التي لا تستطيع الكلمات وحدها أن تُحاكيها. ويحمل الشباب مشعل التراث إلى عوالم جديدة؛ فتتحول عملية فرك السميد عبر ورش المدن إلى حوارٍ حيّ مع الأجداد، وتتلاقى الوصفات وتتشارك عبر الشاشات، لتنتشر حكمة المائدة المغربية في أصقاع الأرض.
وفي أزقة المدن المغربية، تُقام ورشٌ تعيد إحياء فن تحضير الكسكس التقليدي، حيث يتعلم الشباب بعناية فرك السميد وترتيب الخضر بدقة كما كانت تفعل الجدات، محافظين بذلك على نقاء وروح هذا الفن العريق.
الكسكس.. نبض التراث في نبض العصر
وعلاوة على ذلك، وفي فضاءات التواصل الرقمي، تنتشر وصفات الكسكس وتُشارك الصور في مجتمع افتراضي يحافظ على هذا الإرث العريق بلغة العصر.
إنه تراث نال اعترافًا دوليًا كرمزٍ ثقافي يعكس وحدة وتنوع الشعوب المغاربية، ومقاومة هادئة تصون الروح الحقيقية للكسكس، وتمنحه حياة جديدة رغم زخم الحياة السريعة، حامية بذلك خيوط الوصل الممتدة عبر الزمن، ومُجددة للعلاقات التي توحد القلوب حول المائدة.
دفء الجدة وعبق الذكريات
تمامًا كما كانت جدتنا في المطبخ الطيني القديم، حيث كان «الكسكاس» ينفث بخاره في صمت، كأنه يُسرّب أسرار الأجيال الماضية.
جلست الحفيدة الصغيرة على كرسي خشبي، تتابع بعينيها الواسعتين أصابع جدتها وهي تنثر حبوب السميد في القصعة الكبيرة، وكأنها ترسم خريطة لحكاية لا تنتهي. ابتسمت الجدة وقالت بصوت دافئ كنسيم المساء: «أربعون سنة من الحبوب والذكريات».
وفي كل حبة من حبوبه، وفي كل نفَس من بخاره، تكتب الجدات قصصهن وأحلامهن؛ تنثر الحبوب كما تنثر الذكريات، تاركةً لنا إرثًا يتجدد مع كل طبق، ويجمعنا حول دفء العائلة وانتماء الأصول.
وقالت الجدة بحنان: «يا ابنتي، الكسكس ليس مجرد طعام، بل حكاية المغرب من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. أربعون عامًا وأنا أطبخه في القرى والحواضر، في الأعراس والمواسم، في أيام الفرح وحتى في لحظات الحزن. لكل منطقة لمستها، ولكل مناسبة طبقها، ولكل يد سرّها».
أنامل تتراقص على نغمات الكسكس وأسراره
رفعت الجدة حفنة من السميد، تمريره بين الأصابع كأنها همسات من الزمن، “ثلاث رشات ماء مملح، صبرٌ يتحول إلى دفء في قلب الحبة.”
في القدر يغلي اللحم مع البصل والتوابل: زنجبيل، كركم، فلفل أسود، وعود قرفة. تتناغم الخضروات المختلفة برقصها الزمني، من الجزر إلى الحمص. بين كل بخّة ورشة ماء خضر، ولمسة فرك تبقي الحبات ناعمةً لامعةً.
أما التفايا، فهي فرحة القلوب، بصل ذهبي يتراقص مع السكر والقرفة والزبيب، ينساب كعناق الحنين فوق اللحم، يذوب فيه الحلو والمالح، كما تلتقي القلوب بعد غياب.
نغمات الأرض النفعية في طبق الكسكس
وبينما تنساب أبخرة الكسكاس، تُحاك في الخلفية حكايةٌ اقتصادية تنبض بالحياة، يدٌ تروي حقول الخضر بأمل، وأخرى تصقل الأواني بفن وإخلاص، ليصبح الكسكس خيارًا متزنًا بين عجل الحياة ودفء الذكريات.
وفي حباته كنوزٌ خفية: عناصر غذائية ثمينة تحرس المناعة، وأليافٌ تضبط إيقاع الجسد، فيغدو قصيدة حياة تمزج حكمة الأجداد بوعي الأجيال.
كسكس المودة.. عبق يجمع القلوب
أكملت الجدة كلامها وهي تحرك المرق برفق: “في يوم الجمعة، يجتمع الناس حول الكسكس بعد الصلاة، وفي الأعياد يصبح الصحن أكبر من أن تحمله يد واحدة، وفي الأعراس يُقدَّم أولًا للضيوف. وحتى في الصلح بين الجيران، يكون الكسكس أول رسول للسلام.”
طقوس المائدة: جمالية الترتيب ولغة الاحترام
وهكذا، لا يقف الكسكس عند كونه طعامًا فحسب، بل يمتد إلى طقوس المائدة التي تحمل جمالية الترتيب ولغة الاحترام.
كوكبة طقوسية تدور حول صحن الكسكس المركزي كشمس تجذب الكواكب؛ يجلس الكبير مقابل اللحم، ويبدأ الضيوف بالأكل من القلب رمزًا للتقدير والاحترام. تتناقص الدوائر نحو الحواف حيث يجلس الصغار، ويُؤكل باليد اليمنى فقط مع احترام مساحة الجزء المقابل، كأننا نحافظ على مسافات توحدنا وتحيي روح الوحدة.
هذه الطقوس التي ترسمها الأيادي وتغذيها القلوب تعبّر عن لغة الكرم والوفاء؛ فالبدء بأفضل القطع تكريم للضيف، وترك الأفضل للآخرين دليل نبل وإخلاص.
ومع هذه الروح الإنسانية التي تسري في تفاصيل الكسكس، يتجلى المعنى الأعمق له في كونه أكثر من مجرد طبق، فهو رمز للوحدة والتعايش بين مختلف الثقافات.
كسكس السماوات.. طيف الوحدة بين التنوع
هو جسرٌ يتجاوز حدود الدين والطائفة، يزين موائد الأعياد الإسلامية بألوان الفرح، ويُحلّى في التقاليد اليهودية المغربية بالفواكه رمزًا للبركة. يصبح بذلك طبقًا جامعًا تلتقي عليه الأديان في لحنٍ واحد: التسامح والمحبة.
ألوان الكسكس.. فسيفساء النكهات من ربوع الوطن
كانت الحفيدة تستمع بانتباه بينما واصلت الجدة حديثها بحنان: “في الشمال يُعطّر الكسكس بالزعفران، حاملًا عبق الجبال وهمس البحر، أما في الصحراء فيُطهى على نار هادئة مع اللحم المجفف، رمز الصبر والكرم في تلك الأراضي القاحلة. وفي المدن، تُزيّنه التفايا الحلوة في الليالي المضيئة، فتجمع بين الحلاوة والدفء في كل لقمة.
كل منطقة تحكي قصتها، وكل صحن يحمل بصمة المكان والزمان، كمرآة تعكس أرواح الناس وأحلامهم.”
برقة تُشبه نسيم الصباح، وضعت الجدة السميد في القصعة الكبيرة، ثم توجهت إلى «الكسكاس» المثقّب، الوعاء المزدوج الذي ورثته من أجدادها ككنز ثمين.
في القدر السفلي، يغلي مرق اللحم أو الدجاج مع توابل تفوح بعطر الذكريات، وينفث عبيره الحنون عبر ثقوب الوعاء العلوي، حيث يُرصّ السميد حبةً حبة، فتتسلل أبخرة المرق لتعانق كل حبة بحنان، فتتشرب دفء البخار وروح المرق معًا، كأنها تخيط قصة من الحنين والبخار تنسجها يد الزمن.</p>
مقتنيات الكسكس.. عبق التاريخ في لمسة الحرفي
بينما تلمع عينا الحفيدة بسؤال صامت، أمسكت الجدة يدها بحنانٍ يشبه نسيم المساء، وقادتها نحو “الكسكاس” الفخاري المعلق في زاوية المطبخ، حيث يتردد صدى الزمن في أركانه.
قالت الجدة برقةٍ تكسوها دفء الذكريات:
«انظري يا بُنيتي، هذا الوعاء هو وعاء الزمن، يحمل في طياته ذاكرة الأجداد، كان يُصنع من الفخار في أزمنة بعيدة، ثم تحول النحاس ليحمل قصصه، واليوم تحيط به أجهزة الطهي الحديثة. ومع ذلك، في قلب هذا العصر السريع، يظل الكسكاس المصنوع من الألمنيوم اللامع، الرفيق الوفي لكل بيت، هو الحامل الحقيقي لروح الكسكس.
فهناك، بين ثقوب هذا الوعاء البسيط، تتسلل أبخرة الماضي والحاضر معًا، لتخبرنا أن سر الكسكس ليس في المادة، بل في صبر الأيادي ودفء القلوب.»
قد تتغير الأدوات من فخار إلى نحاس فالألمنيوم، لكن روح الكسكس تُخلق في صبر الأيادي ودفء القلوب. سره الخالد ليس في الآلة، بل في البخار الذي يحمل أنفاس التراب، وفي ترتيب الخضر الذي يرسم لوحة اللقاء.
أما القصعة، ذلك الوعاء الطيني العتيق، فهي تحتضن بحنان حبات الكسكس الناعمة، وتُزَيَّن بقلوب الخضار واللحم، وتفوح منها رائحة جذّابة يشتهيها كل من استنشقها قبل أن يذوقها. ليست القصعة مجرد طبق، بل هي نبض الضيافة وذاكرة البيوت، حيث تلتف العائلة حول دفئها، فتُروى حكايات المحبة والكرم، وتتعانق الأيدي في دعوة صامتة للمشاركة. هي شمس المائدة التي تشع دفئًا، وتغمر القلوب بحبّ وودّ لا ينطفئ.
الحكمة تنسج نغمات السميد
مدّت جدتها يدها وبدأت تفرك السميد بحركةٍ أشبه بنسج السجاد، بالماء المملح ثلاث مراتٍ بصبر، كأنها تُعلّم الحفيدة أن الكسكس ليس طعامًا فحسب، بل انتظارٌ يُثمر دفئًا.
وبحنان، استرجعت تفاصيل تحضير الكسكس كما ورثته عن أمهاتها، تحدثت عن أنواعه المختلفة التي تزين الموائد، وكل نوع يحمل نكهة وقصة خاصة. لكن قلبها كان يحنّ إلى الكسكس النباتي الذي يُحضّر دون لحم، حيث تتناغم الخضروات الطازجة والحمص ببساطة رائعة.
ابتسمت بهدوء وقالت: «هذا الكسكس النباتي يعكس روح الأرض وصدق الطبخ الأصيل، وقد أصبح مشهورًا بين النباتيين ويُقدّم كوجبة معروفة خارج المغرب. وكالعادة، يجمع الجميع حول مائدة واحدة، كرابط يصل بين القلوب رغم اختلاف الأذواق.»
الكسكس وصُلح الزمان وجمع القلوب
وكما تتناقل الجدات في الأرياف والمدن حكمة قديمة تقول:
«الكسكس يصلح ما أفسده الدهر».
إنها ليست مجرد كلمات، بل أنشودة ترددها الأزمان لتذكرنا بقوة هذا الطبق في جمع النفوس وشفاء الجراح، حتى في أقسى اللحظات وأعقدها.
هو أكثر من مجرد طعام، إنه رمز للتسامح والسلام، نسيج متين يحيك القلوب معًا، متحديًا كل الفُرقة والاختلاف، جاعلًا من المائدة موطنًا للأمل والوئام.
الكسكس والمطر.. ترانيم الأرض في احتفال الحياة
في ليالي القحط والجفاف، كانت القرى المغربية ترفع قدور الكسكس نحو السماء، كأنها صلوات ملؤها الرجاء في نزول الغيث. وكانت النساء ينسجن من الأمل قصصًا تُروى، تذكرنا بقوة الصبر والإيمان بأن الأرض ستزهر من جديد، مهما طال الانتظار.
أنغام الأصالة تتراقص على مائدة العصر
ومن رحم هذه التقاليد العريقة، ينبثق اليوم حضور الكسكس في عالم الحداثة، حيث يُحكى أن طاهيًا شابًا من الدار البيضاء أعاد اكتشاف الكسكس في مطعمه العصري، مزجًا بين عراقة التقاليد ولمسات الحداثة، ليُحيي بذلك شغف جيل جديد.
وهذا الجسر بين القديم والجديد لا يقتصر على الأطباق فقط، بل يمتد ليشمل التجارب الإنسانية، كما تتذكر سائحة فرنسية زارت مراكش كيف فاجأها دفء المائدة المغربية، حيث تناولت الكسكس بيديها لأول مرة، وشعرت كأنها جزء من عائلة لم تعرفها من قبل.
حكايات نسيج إنساني وروح أمل
وهكذا، يحمل الكسكس في طياته آلاف الحكايات، كل واحدة منها تضيف خيطًا جديدًا إلى نسيج إنساني متجذر وعميق، ينسج جسورًا بين القلوب ويجمع الثقافات، ليعيد صياغة معنى اللقاء والتواصل، ويزرع فينا روح الاحتفاء والتآلف.
لغة القلب والكسكس
لا يقتصر الكسكس على كونه وجبة تُتناول، بل هو نبض قديم ينعش الحاضر، بين البشر وأراضيهم، حاملًا عبق التاريخ وروح الأمل. إنه لوحة حية تنسجها الأيدي بحب، وذكرى تلامس القلب قبل المذاق، لغة القلب التي تروي حكاية شعب وأرض وتاريخ، ورحمة دافئة تجمع الأجيال.
وفي هذا السياق، وفي دفء المائدة ورائحة البخار، تتلاقى الحكايات وتتبادل الأرواح أحلامها، ليصبح كل طبق حكاية تُروى بلا نهاية. وهكذا يُكتب التاريخ، ليس بالمعارك والحجارة، بل بلقيمات تجمع القلوب حول المائدة.
ومن هنا، تأتي هذه الدعوة التي ليست حكرًا على أحد: اقترب من القصعة بقلبك، لتسمع همس الأجداد وتذوق عُمق الأرض ودفئها.