النسبية
هل غيرت الحمير مجرى تاريخ البشرية؟ غالبا ما توصف الحمير بكونها بروليتاريا حيوانية بسبب كدها و عملها الشاق الذي يجبرها عليه مالكوها سواء في الأنشطة الفلاحية و التجارية أو في التنقل خصوصا في المناطق القروية و الجبلية التي تنعدم فيها وسائل النقل.
الحمير ظلت عرضة لتعبيرات الإهانة والسخرية
لكن لا أحد كانت ستخطر بباله أن الحمير قد يكون لها دور فاعل في التاريخ أو مؤثر في تغيير مجراه.
ففي تقرير علمي سبق ان نشرته “بي بي سي يحيلنا على اكتشاف علماء الآثار اكتشافا قد يساعد في إعادة كتابة ما يعرفه عامة الناس عن الحمير التي رغم ما تقدمه للإنسان من خدمات جليلة ظلت عرضة لتعبيرات الإهانة و السخرية التي تنسب لها باستمرار.
و هذا الاكتشاف، حسب التقرير المذكور، تم في قرية فرنسية على بعد 280 كلم شرق باريس، حيث تفاجأ فريق من العلماء عند عثوره على بقايا من الحمير في موقع فيلا رومانية كانت ستقزم معظم أنواع الحمير المعروف شكلها و حجمها.
أصل تدجين الحمير وانتشارها لاحقا
في هذا السياق يؤكد “لودفيك أورلاندو”، مدير مركز للأنتربولوجيا و علم الجينوم في كلية الطب بوربان بتولوز: “لقد كانوا حميرا عملاقة”، مضيفا أن “هذه العينات التي تم ربطها وراثيا بالحمير في إفريقيا، كانت أكبر من بعض الخيول”.
و وفقا لما نشرته “بي بي سي”، يقود أورلاندو مشروعًا يرصد تسلسل الحمض النووي لهياكل عظمية للحمير، كان جزءًا من دراسة أكبر بكثير لتتبع أصل تدجين الحمير وانتشارها لاحقًا إلى أجزاء أخرى من العالم.
رؤى مدهشة
و يقدم البحث رؤى مدهشة حول تاريخ الجنس البشري من خلال علاقته مع هذه الحيوانات شديدة التنوع. الحمير الرومانية التي تم اكتشاف بقاياها و تمت تربيتها في الفيلا الرومانية المذكورة ببلدة “بوين فيل إن ووفر”،، يبلغ قياسها 155 سم من الأرض إلى الكاهل، فيما يبلغ متوسط ارتفاع الحمير اليوم 130 سم، و الحمار الوحيد الذي يقترب من تلك الحمير، هو حمار الماموث الأمريكي، المعروف أيضا باسم “جاك ماموث”، و هو نوع يكون فيه الذكور كبيرا بشكل غير عادي و غالبا ما يستخدم للتكاثر حسب إفادة الخبير أورلاندو.
يقول أورلاندو إن الحمير العملاقة مثل تلك التي تم العثور على بقاياها ربما، في نظره، لعبت دورا مهما و لكنها لم تحظ بالتقدير الكافي، موضحا أنه ما بين القرنين الثاني و الخامس، قام الرومان بتربية الحمير لإنتاج البغال الناتجة عن تهجين الخيول، و التي لعبت دورا رئيسيا في نقل المعدات و البضائع العسكرية”، مضيفا بالرغم أنها كانت في أوروبا إلا أنها اختلطت بالحمير القادمة من غرب إفريقيا، مستخلصا بأن التغييرات في مصير الإمبراطورية الرومانية ربما كانت مفيدة في جعل هذا الصنف العملاق من الحمير يختفي أيضًا، كما استنتج بأنه “في حال لم يكن لديك إمبراطورية يبلغ عرضها آلاف الأميال، فلن تحتاج إلى حيوان ينقل البضائع لمسافات طويلة، لذلك لم يكن ثمة حافز اقتصادي لإنتاج البغال”.
استخدام تقنيات النمذجة الجينية
و أفاد التقرير حول الدراسة العلمية أنه لتتبع كيف لعبت الحمير دورها عبر تاريخ البشرية، قام فريق دولي مكون من 49 عالمًا من 37 مختبرًا ببحث تسلسل جينومات 31 حمارًا قديمًا و 207 حمارًا حديثًا من جميع أنحاء العالم باستخدام تقنيات النمذجة الجينية، و تمكنوا من تتبع التغيرات في أعداد الحمير بمرور الوقت، فوجدوا أن الحمير ربما تم تدجينها لأول مرة من الحمير البرية وربما بواسطة الرعاة منذ حوالي 7000 عام في كينيا والقرن الأفريقي في شرق إفريقيا.
في حين أن هذا أقدم قليلاً مما كان يعتقد في البداية، وربما كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة، فقد خلص الباحثون أيضًا إلى أن جميع الحمير الحديثة التي تعيش اليوم يبدو أنها قد انحدرت من حدث التدجين الفردي هذا ومع ذلك ، هناك دراسات سابقة تشير إلى أنه قد تكون هناك محاولات أخرى لتدجين الحمير في اليمن..
الحمير المستأنسة حاسمة في التكيف مع البيئة القاسية
ومن المثير للاهتمام أن هذا التدجين الأول للحمير في شرق إفريقيا تزامن مع جفاف الصحراء التي كانت خضراء في السابق. و قد أدى الضعف المفاجئ للرياح الموسمية منذ حوالي 8200 عاما، إلى جانب زيادة النشاط البشري في شكل الرعي والحرق، إلى انخفاض هطول الأمطار والتوسع التدريجي في الصحراء ومنطقة الساحل، حيث قد تكون الحمير المستأنسة حاسمة في التكيف مع هذه البيئة القاسية بشكل متزايد.
من جانبها، تقول “إيفلين تود”، عالمة الوراثة السكانية في مركز الأنثروبولوجيا وعلم الجينوم في تولوز، والتي شاركت أيضًا في الدراسة: “هذا نموذج للتدجين ويظهر في جميع الأنواع المستأنسة تقريبًا في أي وقت، مشيرة إلى الانخفاض كان نتيجة اختيار سلالة معينة من الحمير لتدجينها ثم تكاثرها عمداً، مما ساهم في زيادتها الحادة.
ظهور الحمير في طقوس مهمة
وتفيد التحليلات إلى أن الحمير يبدو أنها نشأت في شرق إفريقيا، حيث يتم تداولها في شمال غرب السودان ثم مصر، و تم العثور على بقايا الحمير في المواقع الأثرية التي يعود تاريخها إلى 6500 عام، و على مدى 2500 عام التالية، انتشرت هذه الأنواع المستأنسة الجديدة في جميع أنحاء أوروبا وآسيا، مما أدى إلى تطوير الأنساب الموجودة اليوم.
و وفقا لتقدير عالمة الآثار في النمسا، “غراس” من جامعة “ليرك بريخت”، أحدثت الحمير فرقًا كبيرًا في قدرة البشرية على نقل البضائع عبر مسافات طويلة عبر الأرض بسبب قدرتها على التحمل، إذ تقول: “بينما يمكن استخدام أنهار مثل دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين والنيل في مصر لنقل البضائع الثقيلة أو السائبة، فإن الحمير تعني زيادة هائلة وتكثيف الاتصالات البرية.
و تزامن هذا مع استخدام البرونز خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، مشيرة إلى أننا “بدأنا نراهم أمام مركبات ذات عجلات تشارك في المعركة، فضلا عن توفير وسائل النقل للإمدادات التي يحتاجها الجيش الغازي، حيث يعود للحمير و حتى بعض الخيول الفضل في تغيير فنون الحرب خلال تلك الحقبة، ما جعل حيوانات الحمير تحظى بتقدير هام لدرجة أنها ظهرت في طقوس مهمة.