Table of Contents
عزيز ستراوي
موعد اقلاع الطائرة المتوجهة نحو مدريد سيتأخر
مكبر الصوت يعلن باْن موعد اقلاع الطائرة المتوجهة نحو مدريد سيتأخر.
جرجرت حقيبتي الصغيرة ،وفوقها الاكورديون ،وقد لففته بإحكام في جرابه الرمادي
،وتوجهت نحو قاعة الانتظار.
توقفت عند أول مقعد ،ولما هممت بالجلوس ردعني بتلويحة قاطعة بيده ،وبدون أن يلتفت
إلي
-لا .لا. مشغول.
-تبا له يقول مشغول وعلى يمينه ثلاثة مقاعد شاغرة
متعبا كنت ومرهقا ،ولا طاقة لي للتلاسن مع هذا الرجل الوقح، لذلك ابتعدت عنه واخترت في
صدر القاعة مقعدا وجلست
انتبهت إلى أن الرجل الأشقر الذي صادر حقي في الجلوس يديم النظر إلي من خلف نظاراته
السوداء
تجاهلته ،وتحولت نحو الأكورديون أخذته بين يدي وحضنته ،وبتلقائية رحت أتلمس بأناملي
حروف تلك القولة التي طرزتها على قماشة الجراب منذ سنوات خلت
وحده الفن ينقذ العالم
وكم أسعدني أن أرى حروفها المذهبة مازالت تشع أمام عيني بنفس القدر الذي تشع داخل
فكري ووجداني.
دفقة من السكينة شعرت بها تدب في روحي وجسدي ،وقلت إنها فرصتي أسترخي على
مقعدي وأنعم بقليل من الراحة عساني أنسى قساوة الانتظار ،وأستعيد صفاء مزاج العكر،
ولكن ما أن وضعت الأكورديون على المقعد المجاور حتى ندت عنه نغمة طائشة.
أوه لقد نسيت إغلاق لوحة المفاتيح !
لا يهم سأفعل ذلك لاحقا– قلت
1
قنبلة جئت لتفجرها في المطار
من جديد لمحت الرجل ينظر إلي وعلى شفتيه ابتسامة متشفية تقول :لقد طردتك أيها النيكرو
الملتحي شر طردة، فما الذي بوسعك أن تفعله ؟
نعم أعرف هذا النوع من البشر بمجرد ما يلمح بشرتك السوداء يتقزز، ويحاول بشتى الطرق
إبعادك أو الابتعاد عنك يعتقد دوما أن رائحتك كريهة ،وأنك سوف تعتدي عليه وتسلبه أمواله
وأنك لا تحمل في جرابك أكورديون، و إنما قنبلة جئت لتفجرها في المطار.
ما رأيك لو نبلغ البوليس ؟
في اللحظة جلست بجوار الرجل امراة. خمنت أنها زوجته وسرعان ما أمسك بيدها، ووشوش
في أذنها ببضع كلمات. تخيلته يقول لها محذرا : ذلك الصندوق الرمادي يثير شكوكي
ومخاوفي ما رأيك لو نبلغ البوليس ؟
بدورها شدت على يده وهمست في أذنه بكلام حدست أنها قالت له :- لا تخف كاميرات
المطار تترصد كل صغيرة وكبيرة.
– هيا ماذا تنتظر أيها الرعديد اهرب بجلدك قبل أن تتحول إلى كومة مفحمة معجونة بلحمك
ودمك
كان بوسعي أن أطلق صرختي الغاضبة هاته في وجهه، لكني آثرت ان أدفنها في صدري،
ولكي أتجاهل نظراته المريبة انصرفت أتامل حركات المسافرين في ذهابهم و إيابهم، بل
وللمزيد من التجاهل أخرجت من جيبي رسالة الدعوة التي توصلت بها من إدارة المهرجان،
وانشغلت بقراءة كل التفاصيل المتعلقة ببرنامج الدورة، وكم حز في تفسي أنه طيلة مشواري
الفني لم أتلق ولو مرة واحدة دعوة من مهرجانات بلادي.
تجرعت حسرتي وأنا اْعيد الرسالة إلى جيبي، ثم نظرة خاطفة مني إلى الرجل، وزوجته
أف لاشيء تغير !
المطاردة مازالت مستمرة ، وها هي الزوجة قد انضمت إليها.
شعرت بالاختناق ووجدتني هذه المرة تحت سطوة نظراتهما كطريدة تتلجلج في شباكها باحثة
عن منفذ للخلاص.
قلت كفى الأمر لم يعد يحتمل امتدت يدي نحو الجراب، و أخرجت الاْكورديون، ولا أعرف
في تلك اللحظة بالذات لماذا وجدتني أعزف زهرة صغيرة لسيدني بكيت
1
العالم لم يتخلص بعد من عدوانيته المقيتة
هل كنت في موقع الدفاع عن النفس ، وكان علي أن أبرىء نفسي أمام هذا العنصري الذي
حولني إلى مجرم خطير يهدد سلامة البشر؟ أم ربما تأكد لي أن هذا العالم لم يتخلص بعد من
عدوانيته المقيتة، وهو بحاجة إلى جرعات قوية من الحب ؟لست أدري؟
كلما اْتذكره حينئذ أن ضجيج القاعة بدا يخف تدريجيا تاركا مكانه لمعزوفة الزهرة وهي
تعبق بأريج نغماتها، وبدا لي أن وجوه المسافرين التي كانت قبل قليل متيبسة بالضجر، و
الانتظار، ولوعة فراق الأحبة تتطلع نحوي مستنيرة متهللة
بعض الصبية تحلقوا حولي متحلقين في الأكورديون الاْرجواني و أنا أداعب بأناملي أزراره
اللامعة البراقة، وأعتصره بين يدي فيتنهد ويتأوه ألحانا رقيقة عذبة
وأنا في غمرة العزف لمحت الرجل الأشقر ذي النظارات السوداء يقترب نحوي بخطوات
محسوبة متأبطا ذراع ما اعتبرتها زوجته، وبيسراه يحمل آلة الكلارينيت.
مشهد أذهلني. بعثر كل أوراقي، و نسف كل حساباتي السابقة
بمجرد ما أخذ مكانه بجواري انخرط مباشرة في العزف، وبشاعرية لاتخطئها أذن خبير
مثلي.
نعم هكذا تعرفت على ستيفان الفنان الضرير عازف الكلارينيت.
و أذكر جيدا أنه في تلك اللحظة النادرة لم نكتف بالزهرة الصغيرة، بل نثرنا في تلك القاعة
زهورا كثيرة، وعزفنا من الريبرتوار الموسيقي أجمل باقاته قبل أن نتوجه سويا إلى مهرجان
الجاز بمدريد ونحن صديقان
زهرة صغيرة معزوفة شهيرة لعازف الكلارينيت سيدني بكيت 1958.

satraoui-2.jpg