محمد التاودي
الحي الصفيحي نسيج غني من طين وأحلام، تخفي أزقته أسرار الفقر والكرامة، وتتناثر فوق جدرانه شواهد تحفظ ذاكرةً لا تنطفئ.
ومن قلب هذا الفضاء المتداخل، تمتد الخيوط لتقودنا نحو أطراف الدار البيضاء المتطلعة دوماً إلى البحر والمستقبل، حيث كانت تقبع ذاكرة مدينة أخرى. تجمع سكني من البراريك وآمال البسطاء، نبت في ظلّ المصانع ووهج التصنيع، ليحكي قصةً أخرى للمغرب. إنه حي كريان سنطرال، لم يكن مجرد أحياء عشوائية، بل نسيجًا اجتماعيًا متكاملًا من الذاكرة والكرامة الإنسانية.
نشأة قسرية على أنقاض الحلم
مع أربعينيات القرن الماضي، لم تكن هجرة القرويين الفارين من جحيم الجفاف والفقر والأمراض مجرد حركة سكانية، بل كانت ولادةً قسرية لواقع جديد. كانت المصانع والموانئ الناشئة تفتح ذراعيها لعمالة رخيصة، فاستقبلت الأراضي البور على مشارف المدينة هؤلاء الوافدين الجدد، ليتحولوا بسرعة إلى بروليتاريا تحمل على أكتافها نهضة اقتصادية، بينما تسكن هي في بيوت من صفيح وطين.
هنا، في كريان سنطرال، تشكلت واحدة من أكبر تجمعات الصفيح، لتصير نواة لأحلام لم تجد لها موطئ قدم في قلب المدينة “الحديثة”.
خريطة إنسانية من الأسماء والوجوه
لم يكن كريان سنطرال رقمًا إحصائيًّا، بل كان نسيجًا اجتماعيًّا معقدًا وحيًّا. امتدت جغرافيته البشرية من كريان “البوهالة” و”لاحونا” شرقًا، إلى كريان “البشير” و”الرحبة” غربًا، حاضناً قرابة ثمانين ألف نسمة، يحمل كل دربٍ منهم حكاية، وكل زقاقٍ سرًّا. كان نسيجًا فريدًا من التعايش، شاهدًا على صمودٍ يومي في مواجهة القسوة.
معقل المقاومة والصمود
من رحم هذه الأزقة المتراصة والفوضى الظاهرة، ولد تاريخٌ نضاليٌّ مشرِّف. لم يكن الحي مجرد مسكن للفقراء، بل كان قلعةً للتصدي. انبثقت من بين براريكه خلايا المقاومة السرية، حيث تحولت المساجد الصغيرة إلى منابر للتنظيم والتخطيط.
وفي أكتوبر 1952، انطلقت من هنا شرارة إضراب عمالي تاريخي، كما شهد الحي مواجهات دامية تضامنًا مع اعتقال واغتيال قيادات الحركة الوطنية. تحمل سكانه الملاحقة والسجن، محافظين على أسرار بطولة صامتة لم تُدوّن كل فصولها، ومع دلك لم تتوقف الحياة عن نسج روتينها اليومي، فكل يوم يحمل في طياته إشراقة جديدو وصخبا متجددا.
إشراقة كريان سنطرال
مع بزوغ النهار، ينهض كريان سنطرال كجسدٍ واحدٍ يواجه ضوضاء الواقع. تتعالى أصوات الباعة في الممرات الضيقة، ويمتزج صدى المطارق بوقع الحديد ودقّات النجارة المنبعثة من الورش الصغيرة. وسط الغبار وضيق المكان، يتجدد العزم على البقاء، ويُخطّ فصلٌ جديد من حكاية لا تعرف الانطفاء.
وسط هذا المشهد، تتصاعد ضحكات الأطفال وهم يلهون بألعاب بسيطة صنعوها من الخشب والأسلاك، وكأنهم يمسكون بأحلام طفولتهم بين أياديهم الصغيرة، مصممين على أن يضيئوا هذا الحي المتحدي للنسيان.
لم يكن هذا المكان مجرد مساكن متواضعة، بل كان قلباً اقتصادياً نابضاً يغذي الصناعات بعرق أبنائه. ورغم قسوة الظروف، حافظ السكان على تراثهم الحرفي، محولين الأسواق إلى معارض حية للزرابي التقليدية والملابس المطرزة والمصنوعات الخشبية، في مقاومة صامتة ضد التهميش والطمس.
وتتنفس الأزقة بأنفاس الحياة اليومية، حيث تختلط أصوات الباعة برائحة الشاي والنعناع والدخان المتصاعد من المواقد، مكونة معزوفة بشرية فريدة.
وفي قلب هذه الحياة النابضة، يقف دكان الحاج إبراهيم شاهداً وكأنه ذاكرة الحي النابضة بالحياة. يوزع بضاعته البسيطة وبنفس الوقت يمنح الزبائن النصح والطمأنينة، منادياً إياهم بألقاب محبة تذوب فيها الفوارق الاجتماعية. يغادر رواد الدكان وكل منهم يحمل في قلبه دفئاً إنسانياً نادراً، وكأنهم استلهموا شيئاً من روح هذا الحي الذي يرفض الاستسلام.
أزقة الصفيح… لحن المدينة الحي
ومن هذا الزخم اليومي المتدفق بين الدكاكين والأزقة، كان الطريق الرئيسي شاهدًا على تحولات الحي، حيث تجاوز كريان سنطرال كونه مجرد حي سكني، ليغدو نبضًا حيًا في قلب المدينة ولوحة إنسانية مرسومة على صفيح، تعكس وجع الجوع ووهج الحلم معًا، كأزقة صفيح تنبض بلحن المدينة الحي ومسرحٍ للحزم الذي لا ينكسر.
وعلى حوافي الحي، امتد الطريق المعبد بالزفت شرياناً حيوياً تختلط عليه أنفاس الحياة. نهاراً، تشق شاحنات لافارج الثقيلة طريقها محملة بصخور الأمل، وتهتز تحت وطأتها بيوت الصفيح وكأن الأرض تتنهد بألم. لكن مع غياب الشمس وهدوء العطل، يتحول هذا الشريان الأسود إلى ملعب مقدس، حيث تلمع تحت أضواء المصابيح الخافتة أحذية مهترئة تركض خلف حلم، ليتحول الزفت إلى ساحة تتحدى فيها الطفولة ضيق المكان وهشاشة الواقع.
ومن وسط هذه الأزقة ونبضها اليومي، ارتفعت قلعة التصدي رغم نظرة المدينة إليه كجرح مفتوح. من بين براريكه البسيطة خرج رجال حملوا شعلة التحدي، يحرسون ذكريات الطفولة كما يحمون سرّ البطولة، لتغدو ملاعب الصفيح مجرد وجوه متبدلة لمسرح واحد: مسرح الصمود الذي لا ينكسر.
حيث تصغي الأزقة وتهمس الجدران
الحي لم يقتصر على المعاناة، بل كان مسرحًا لشخصيات صنعت حضوره، رجال كعبد القادر مول الحمام، مبارك السفناج، وعبد القادر الشيضمي، الذين صاروا رموزًا في فضّ النزاعات وقيادة الاحتفالات الدينية والوطنية. كانوا أكثر من أسماء؛ كانوا ذاكرة تمشي على الأرض.
الروح.. سقفٌ يقي من هشاشة الصفيح
لم تكن الحياة ماديةً فقط. في المساجد الطينية والكتاتيب، وجد الناس سقفًا معنويًّا يحميهم من قسوة الواقع. ارتفعت أصوات المآذن تدعو للصلاة، وتلألأت أعين الأطفال وهم يحملون ألواحهم الخشبية إلى حلقات العلم. في ليالي رمضان، كان الحي يتحول إلى ساحة روحانية، تختلط فيها رائحة الحريرة بتراتيل القرآن، مذكّرةً الجميع بأن وراء الصفيح سماءً رحيمة.
كريان سنطرال.. صرخة لا تنكسر
كان كيانًا يختزل مآسي الفقر، لكنه يروي أيضًا قصة اصرار متجدر. لم يكن تجمعًا سكنيًا عشوائيًا فحسب، بل صرخةً عالقة بين البؤس والكرامة، بين الانكسار والنهضة، وبين العتمة والضياء، وحلمًا لم يُدفن بعد، لأن الأرواح التي سكنته لم تعرف يومًا معنى الاستسلام.
ضحكات الطين وأحلام الصفيح
في مدرسة كريان سنطرال، كان سؤال “أين تسكن؟” كاشفًا للهوية كالوشم، فتتكشف الإجابة للأطفال أمام نظرات ساخرة، فيختبئون بين الكلمات ويختلقون عناوين لتعويض غياب الانتماء. ومع ذلك، تمنحهم الأسواق الضيقة والأزقة المزدحمة وروائح الطبخ شعورًا بالهوية والانتماء، فتظل الحياة، رغم قسوتها، حاضرة في كل زاوية.
كان أطفال الحي يصنعون عالمهم من الخيال؛ يلعبون كرة القدم بكرات من القماش الملفوف، ويحلمون تحت سماء مفتوحة بأن يكونوا أطباء أو معلمين. لكن الفقر ظل ظلًا ثقيلاً يسرق الكتب ويجبرهم على أعمال يدوية صغيرة في الأسواق، ومع ذلك ظلوا يضحكون، يصنعون الفرح من لا شيء، كأن الحي نفسه يعلّمهم الصمود.
الفقر والتعليم والإجرام… مدرسة الصبر واليقظة
على الرغم من أحلام الأطفال، كانت المدارس تعاني نقصًا في الموارد، واضطر كثير منهم لمغادرة مقاعد الدراسة لمساعدة أسرهم، فظل التعليم بعيدًا، والحرمان واقعًا مأساويًا، لكنه لم يمحُ روح الحي التي تعلم الصبر.
وفي الأزقة الضيقة، كان الإجرام يختبر الشباب منذ الصغر، من سرقات إلى مشاجرات، لكنها نفسها كانت مدرسة تعلم النجاة واليقظة، حيث يحاول السكان حماية أحلامهم من أن تموت بين الحديد والصفيح.
بؤسٌ يتحدى: فيضانات، حرائق، وأمراض
واجه السكان معارك يومية ضد الأمراض الناتجة عن الازدحام وغياب الصرف الصحي. كانت الفيضانات والحرائق كوابيس متكررة تجرف البيوت الهشة، تاركة العائلات في العراء. لكن كل كارثة كانت تلد لوحةً أخرى من التضامن المذهل، حيث يتحول الجيران إلى عائلة واحدة، يتبادلون الطعام والأغطية، ويساعدون بعضهم في إعادة البناء بحبات الأمل.
ملجأ الفارين بين الأزقة
عندما تضرب الزلازل، يتحول الحي القصديري إلى ملجأ آمن، يفتح أبوابه لساكنة الأحياء المجاورة، من درب مولاي الشريف إلى درب السعد. بين جدرانه البسيطة وأزقته الضيقة، يولد شعور غريب بالتضامن، وتتشابك الأيادي في لحظات من الالتحام، فتختفي الفوارق ويبقى الإنسان وحده حاضرًا، متحدًا في مواجهة المصاعب.
صرخات ضد الظلم
لم تكن المقاومة اجتماعيةً فقط، بل كانت سياسية. ففي عام 1965 خرج السكان في مظاهرات عارمة ضد سياسة التعليم الجديدة وطرد التلاميذ. وفي الثمانينيات واجهوا موجة الغلاء بقمعٍ شديد، حيث اعتُقل المئات وزُجّ بهم في سجن درب مولاي الشريف القابع في قلب الحي، ليكون سجّانهم هم أنفسهم الذين يسكنون بجواره.
أعياد تُنسج من نور التضامن
رغم قسوة الظروف، لم تستطع الصعوبات إخماد بهجة الأعياد في كريان سنطرال. كانت المناسبات تشكل لوحة فسيفسائية نابضة، تتحول فيها الأزقة إلى موائد جماعية، ويمتلئ الحي بضحكات الأطفال وهم يطوفون بين البيوت حاملين التهاني، في مشهد يجسد أسمى معاني التكافل.
ويبرز عيد الأضحى كأجمل لوحة في الحي القصديري، حيث تتعالى أصوات الذبح والفرح كأنها موسيقى تحتفي بالكرامة والعطاء، فتتوارى الخلافات الصغيرة أمام بهجة المناسبة وروحها الجمعية، وتتحول لحظة النحر إلى احتفاء بالروابط الأسرية والاجتماعية، بينما تضفي الأزقة الضيقة والصفيح نبضًا خاصًا على هذه اللحظات.
وبالمثل، يحتفل سكان الحي بعيد الفطر، حيث تتفتح البيوت بالتهاني والزغاريد، وتكتظ الأسواق بالمكسرات والحلويات والملابس الجديدة، فيمشي الحي كله على إيقاع الفرح المتجدد. بين الزيارات والابتسامات، تتجسد لحظات المحبة والتآلف في قلب الصفيح، وتستعد الأزقة لتتلقى يومها التالي، حيث ينبض السوق الفوقاني بالحياة ويبدأ فصل جديد من الحكايات اليومية.
أما في الأعياد الوطنية، فيلتقي رجال الحي ونساؤه، شبابه وشيوخه، في حلقات دائرية تروي حكايات الوطن والانتماء. تتحول الساحات إلى مساحات للفرح والافتخار، تصاغ فيها الذكريات وتُحفر في وجدان المكان.
ومع بزوغ فجر اليوم التالي، يعود كريان سنطرال إلى نبضه المعتاد، حاملاً في جعبته ذكريات مناسبة جديدة تثري رصيده الإنساني، وتتجلى تلك الحيوية أكثر في
حيث يتحول السوق إلى لوحة بشرية متحركة؛ من بين الضجيج يعلن بائع الخضر عبر مكبر الصوت عن بضاعته، وتفيض بائعة الخبز بأرغفة دائرية، ليكتمل المشهد ويمتزج العمل اليومي بالدفء والغموض، ويقود الزائر إلى عمق آخر من الحكاية .
أسرار دكاكين العطارة
في قلب السوق، يجلس الباعة في دكاكين العطارة الضيقة، تتدلى من سقوفها أكياس الأعشاب وتفوح منها روائح الزعتر والبخور والفاسوخ، وتتعلق أجساد بعض الحيوانات المجففة.
رجال ونساء يبيعون التمائم والطلاسم، ويحيطون أنفسهم بهالةٍ من الغموض. تهمس أصواتهم عن الحظ والعين، فيتوقف المارة بين مصدِّقٍ ومشكك، وكأن الزمن يتباطأ ليسترق السمع إلى أسرارهم.
وهكذا، تتشابك الحياة اليومية مع الحكايات القديمة، لتشمل كل تفاصيل السوق الصغيرة والكبيرة، لتصل بنا إلى زاوية أخرى حيث تتنفس الكتب بين طياتها نبض الأزقة.
السوق الفوقاني… حين تتحول الأزقة إلى مكتبات من نبض
في هذه البيئة الحيّة، تتجاور نفحات العهد القديم مع رفوف الكتب المستعملة، حيث تحوّلت هذه المكتبات الشعبية إلى بديلٍ صامتٍ للمكتبات العمومية الغائبة عن الحي. هناك يجد الطلاب والقراء البسطاء كتبًا في متناول اليد، وتُبعث من بين الغبار طبعاتٌ فاتَها الزمن، تحفظ الذاكرة وتغذّي عادة القراءة.
وسط هذه الأجواء، يتحول الباعة أنفسهم إلى رواة ومسرحيين، يقرؤون لمن لا يجيدون الحروف، ويعرضون الروايات كما يوزّعون الأحلام، فتغدو أركان السوق مكتبات حيّة تعوّض ما افتقدته المنطقة من فضاءات للثقافة والمعرفة. وبينما ينهل الزائرون من الكتب، تتواصل الحياة في أرجاء السوق، لتتجسد في تفاصيل صغيرة تُثري المشهد النابض بالحركة والروح.
إيقاعات السوق… سيمفونية الأزقة
وعلى أطراف السوق، تصطف أقفاص الطيور معلقة بين الأرض والسماء كحكايات تتأرجح على وقع الأجنحة. تغرد العصافير وتصرخ الديكة، وكأنها تشارك في انشودة الحي، شاهدة على حياة البسطاء وذاكرة الأزقة. ومع هذه الأجنحة، ينتقل السرد من الأصوات والروائح إلى الحركات والألعاب، حيث يكتمل عرض الحياة اليومية.
الحلقة: فن على حافة الفقر
في قلب الساحة، كانت الحلقة تنبض بالحياة كأنها نبض الشارع نفسه. الحلايقيون يرسمون قصصًا من الزمان والمكان، وأصواتهم تعلو في فضاء الساحة كحمام يتنقل بين الجدران المتراصة. وتحت أشعة الشمس، يمتد وقع هذه الفنون ليصل إلى جمهور السوق بأسره، حيث تتفاعل كل زاوية وكل حركة مع الأخرى.
ضحك الحياة في ساحة الحلقة
وسط الحشد، يبرز “خليفة”، ملك الحلقة بلا منازع. يحوّل الأرض إلى مسرح حيّ، حيث تتحرك كل كلمة، وكل ابتسامة، وكل نظرة، فتصبح مادة للسخرية والضحك، ليكتمل بذلك ايقاع السوق الفوقاني، من أصوات الباعة إلى ضحكات الحلايقيين، ومن همسات الأزقة إلى حيوية المكان.
كان يملك القدرة على انتزاع الضحك من الأفواه بأقل حركة، ويحوّل حتى الحديث عن موته إلى قصة فكاهية تُثير البهجة في النفوس، وكأن الحياة نفسها تتنفس من خلال نكاته وطرائفه. أصبح رمزًا لفن الحلقة والمرح، واكتسب شعبية وطنية جعلته أيقونة للبهجة في كل مكان.
وفي زوايا أخرى من السوق، يقف الحكواتي، يروي قصص الأولياء والأبطال والجن، فتتوقف حوله وجوه الأطفال والشيوخ على حد سواء، مستغرقة في سحر الحكايات التي تمزج بين الغموض والعبر. ومع كل حركة من يديه، تتحرك الكلمات وكأنها ترسم صورًا حية في الهواء، فتتلون المشاهد بالإثارة والدهشة.
يضحك الأطفال من الطرائف، ويهمس الشيوخ بالتعجب، ويشعر الجميع كأنهم يسافرون بعيدًا إلى عوالم تنبض بالحياة، حيث تختلط الحقيقة بالخيال وتصبح كل لحظة جزءًا من سحر السوق الخالد.
ومع استمرار هذا النسق المبهج، يظهر الحلايقيون المجاورون، أمثال “بوغطاط”، ليضيفوا لمسة من البراعة والمرح، مستعرضين مهاراتهم بين الحضور ومحولين الضحك إلى قوة معنوية تقوي الجميع في مواجهة قسوة الواقع.
السوق: نافذة على الحياة والكرامة
لم يكن السوق مجرد فضاء للبيع، بل نافذة على عالم آخر، عالم ينسى فيه الناس تعبهم، ويذوب فيه الفقر في الضحكات العابرة. كل كشك، كل زاوية، وكل نداء بائع، وكل حكاية تُروى أو حركة بهلوانية، تصنع فسحة من الكرامة وسط ضيق العيش، وتبقي روح الحي حيّة في قلوب سكانه، في ذاكرتهم، وفي ضحكاتهم الصغيرة.
إيقاعات الحي وموسيقى الحياة
ومن هذا النسق اليومي من الحكايات الصغيرة وروح السوق، انطلقت أصوات الحي لتكسر جدار الصمت؛ ألحان “ناس الغيوان”، “السهام” و”المشاهب”، تتسلل كنسيم بين الجدران المتآكلة، ترسم أنغام الأمل فوق الإسمنت والحديد. تحولت الأزقة إلى مسرح حياة، وصارت الموسيقى رفيقًا للأهالي، تربط الماضي بالحاضر وتمنح الحي صوته الذي لا يموت.
لم يكن كريان سنطرال مجرد حيّ، بل مصدر إلهام للفن المغربي؛ ففي نغمات الهجهوج والبندير حملت الفرق المحلية كتكادة ومسناوة وجع المعذبين وصدى الأزقة، فغدت قصص الصفيح مرايا تعكس أحلام الأمة وآلامها، وجداريةً حيةً تبوح بهموم الناس إلى العالم.
على صفائح الحديد والجدران المتهالكة، رسم شباب الحي وجوه الشهداء بخليط من الجير والغضب، لتصبح جدارياتهم صرخة صامتة تسبق أغاني الغيوان، شاهدة على صلابة الحي وصوت الروح الذي لا يُخمد.
أصداء الرياضة في أزقة الحي
وفي الرياضة، صاغ العربي الزاولي كرة القدم لغة الفقراء، فكان فريق “الطاس” رمزًا للحلم أكثر من الألقاب، منافسًا ليبقى شعلة أمل لكل من لا يملكون غير الحلم. لم يقتصر الأمر على كرة القدم فقط، بل امتدت روح التحدي إلى كل الرياضات، من الملاكمة إلى ألعاب القوى، حيث شكلت الحلبات والملاعب مسارًا للإصرار والشجاعة، وجسدت لكل شاب أن الأحلام الكبيرة قد تولد من أصغر الأزقة وأشدها فقراً.
حبر وأحلام بين جدران الصفيح
ومن رحم أصوات وأنغام التصدي، برز المثقفون والقراء ليضيفوا بعدًا آخر للحي؛ كتبوا ونظموا في زوايا البراريك والمقاهي المجاورة، وحلّلوا في حلقات النقاش السرية، فكانت الثقافة ملاذًا يضيء عقول الشباب، حيث تتسلل الكتب والمجلات بين الجدران الصفيحية لتصنع جسورًا بين الواقع اليومي وأفق الأحلام.
كانوا الجسور بين صخب السوق والهدوء الداخلي، بين الغناء والمطالعة، ليظل كريان سنطرال حيًّا في القلب والذاكرة، حيًّا بصوته وفنه وأحلام أهله التي لا تموت.
لكن رغم هذا النبض الثقافي وروح الإبداع، بقي الحي هشًا أمام قسوة الزمن وسياسات المدينة. فكل إبداع وكل حلم لم يكن أكثر من ومضة صغيرة في مواجهة قرار أكبر، قرارٌ سيعيد تشكيل المكان بأكمله، مسحًا للجذور القديمة التي حملت أصوات السوق والكتب والضحكات، وفتح فصلًا جديدًا من الفقد والحنين.
غير أنّ هذا الزخم الثقافي لم يكن كافيًا ليحمي الحي من مصيره المحتوم؛ فالإبداع، مهما كان متوهجًا، ظل عاجزًا أمام قرارات الدولة ومخططات التهيئة العمرانية. وبينما كانت الحكايات تُروى والأغاني تتردد في الأزقة، كانت المدينة تُخطط بصمت لمحو هذا العالم بأكمله.
سقوط البراريك: نهاية مكان وبداية ذاكرة
ومع مرور الزمن، لم تحتمل المدينة هذا الجسد المزروع على أطرافها، فكان لا بد من هدمه ومحو ذاكرته من الخرائط.
في عام 2016، جاءت جرافات البلدية لتعلن نهاية عهد البراريك، وبدأت رحلة تهجير قسري مثقلة بالفقد والحنين، وسقطت آلاف البراريك كأوراق شجر جافة، بينما تحول سكانها إلى ظلال تبحث عن بصمة في سجلات المدينة.
ومع انهيار آخر قطعة من الذاكرة، ظلّ الحي حيًّا في عيون الشيوخ الذين رأوا أحلامهم تُدفن تحت الأنقاض. بقي الكثيرون مشردين في ضواحي منسية، بلا عنوان، ضائعين بين المدينة الكبيرة وأطراف مهملة، حيث أصبح حلم الحياة الجديدة سرابًا.
رحيل الجدران.. بقاء الذاكرة
مع ارتطام الجرافات ببيوت الصفيح، ارتفع غبار الهدم ليغطي الحجارة والقلوب معاً. وقفت فاطمة الزهراء (65 عاماً) تودع أربعين عاماً من الذكريات بينما تتهاوى جدران بيتها، في مشهد يجسد مأساة التشرد وفقدان الهوية. لم تكن وحدها في معاناتها، فالبعض وصل به اليأس لمحاولة إحراق الذات احتجاجاً على ظلم لا يجد له صدى.
تقول الحاجة فاطمة بصوت يختنق بالحنين: “كنا عائلة واحدة، والآن صرنا غرباء حتى عن جيراننا”. ويضيف الحاج إبراهيم أمام دكانه المغلق: “ذهب الكريان وحمل معه روح المدينة”.
انتقل السكان إلى شقق إسمنتية على أطراف المدينة، أكثر اتساعًا لكنها أشد برودة. جدران متينة بلا حكايات، ومساحات صامتة تفتقد دفء الأزقة وضجيجها الحي. وتبخرت الوعود السكنية في متاهات الوثائق الرسمية، ليجد كثيرون أنفسهم بلا مأوى يحميهم، وبلا هوية تثبت وجودهم.
لكن رغم تحول البراريك إلى ركام، استطاعت الذاكرة أن تحفر طريقها للبقاء. انتقلت حكايات الحي من الأزقة إلى الفنون والقصص والأشعار، لتصير تراثاً شفهياً يحمله المنفيون كجمرة دفينة في صدورهم.
في الشقق الجديدة، يجلس الكبار يلمسون الجدران الباردة، بينما يتساءل الصغار عن صوت المطر على الصفيح الذي ألفوه. صمتٌ ثقيل حل محل ضجيج الحياة، وغربة روحية طمست معالم الانتماء.
وبينما تستمر المدينة في مسيرتها، تبقى ذكرى كريان سنطرال كندبة غائرة في جسدها الحضري، تحمل أصداء ضحكات وأحزان حي بكاملها، شاهدة على أن زوال المكان لا يعني محو الذاكرة، وأن الروح تظل حية حتى تحت أنقاض النسيان.
غربة بين جدران بلا أصوات
مع التهجير، لم تُهدم البراريك وحدها، بل تشتت نسيج اجتماعي كان يربط سكان الحي. في الشقق الجديدة، افتقدوا أصوات الأزقة وضحكات الجيران، فصار الصمت عدوًا جديدًا.
كان الانتقال إلى المدينة الجديدة بمثابة غربة داخل الوطن، حيث حاول السكان إعادة بناء هويتهم وسط جدران لا تعرف قصصهم، محافظين على روح الحي في الذاكرة أكثر من المكان.
النسيج الاجتماعي والوحدة بين الأبنية الجديدة
ما بعد التهجير كان فصلًا جديدًا في حياة السكان، ليس فقط من ناحية المكان، بل من حيث البنية الاجتماعية نفسها.
تفتتت الشبكات الاجتماعية، تباعدت العلاقات القروية والقبلية التي كانت توحدهم، وانتشرت ظاهرة العزلة في الأبنية الجديدة. العديد منهم فقدوا شعور الانتماء ولم يجدوا بلسماً لجراح الذاكرة التي تركها الفصل عن الأزقة القديمة.
الأصوات التي بقيت حية: صدى الحي في ذاكرة المدينة
بعد الهدم، لم تتوقف الحياة الروحية للحي؛ فقد تحولت الأرض الجرداء إلى ساحة صراع بين ذاكرة ترفض النسيان وأطماع تتربص. يقاتل ناشطو جمعية “كازاميموار” إلى جانب جمعيات مدنية أخرى لإنقاذ تاريخ لم يُدوّن إلا في قلوب الفقراء، بينما يحافظ أبناء الحي على ذكرياتهم عبر الفنون والرواية الشفوية.
بقي الموقع قفرًا، لكنه ظل شاهدًا على صدى الماضي وإرث كريان سنطرال، محتفظًا بالإصرار والأمل الذي لا يموت، لتبقى أصواته حية في ذاكرة المدينة.
الزوايا الصفيحية ووشم الذكريات
ومع انهيار البراريك، سقط الستار على حياة كريان سنطرال، تاركًا سكانه يواجهون فراغ الهوية والحنين. لم يكن أحد مستعدًا لمحو ذلك العالم الصغير، حيث كانت الأزقة تعج بالحياة، وأصوات الباعة تمتزج بروائح التوابل والفواكه، والحرف اليدوية تُعرض على الأرصفة. ومع كل هذا، ظلّت الذكريات محفورة في قلوب من عاشوا تلك الأيام.
ظل السوق الشهير حاضرًا في ذاكرة الأهالي، وكأن أصوات الباعة ما زالت تتردد في زواياه، حاملة صدى نداءاتهم بين الأطلال. ورغم اندثار الحي ماديًا، بقي رمزًا للفقر والمقاومة والفن، شاهدًا على أن الإنسان أغلى من الحجر، وأن حفظ الذاكرة الشعبية جزء من تاريخ المدن وروحها.
وفي وجدان من عاشوا أزقته، ما زالت دكاكين السوق الفوقاني وحلاقوه وضحكات رواده حاضرة، تتردد في جلسات المقاهي ودردشات الأصدقاء كأصداء فرح قديم، تذكّر بلحظات التلاحم التي صنعتها الحياة وخلّدها الزمان في قلب المدينة.
الذاكرة التي لا تُمحى
رغم اختفاء كريان سنطرال من الخرائط، يظل حيًّا في الذاكرة الشعبية، حيًّا في الحكايات والحنين، وفي ضحكات الأطفال وأحلام العابرين. بعض الأماكن لا تموت، حتى لو محيت من الخرائط، لأنها تُنقش في الذاكرة كوشمٍ لا يُمحى، كفجرٍ لا يغيب. ومع ألحان فرق مثل “ناس الغيوان” وذكريات ساكنيه، يظل اسم الحي إيقاعًا في نشيد البقاء، شاهداً على صموده وأمله المتجدد، بين صدى الماضي ورغبة المستقبل.