محمد التاودي
السجون لم تُخلق من الحديد، بل نشأت أولاً في عقل الإنسان، ولتحطيم المعتقلات، يجب أن تنهار أولاً في وجدانه. حين تتحول القيود إلى جدران حديدية، تبدأ معركة التحرر داخل كل فرد، في وعيه وقراره الذاتي.
في كل قلب واحد منا، سجن خفي ونافذة صغيرة نحو الحرية؛ من يفتح النافذة يكتشف أن القيود ليست حواجز، بل دعوات لاختيار الطريق. هذا المفهوم يتجلى بوضوح في سلوك البشر، حيث الحرية لا تُقاس بما يراه الآخرون، بل بما يعيشه الفرد داخل ذاته.
مثل جذور تنمو في باطن الأرض رغم الصخور، ينمو في الإنسان أمل وحرية داخلية رغم كل الأغلال الخفية التي تحيط به.
سجون خفية ونوافذ الحرية
في الكون الإنساني، قد يسير البعض في ظاهر الحرية وهم مكبلون بقيود خفية، بينما يجد آخرون خلف القضبان طريقًا للتحرر. كما قال نلسون مانديلا: “الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع”. تمامًا كما غاليليو الذي عاش محاصرًا لكنه أبقى فكره حرًا، فالحرية الحقيقية لا يمكن احتجازها في الزنزانة مهما كانت قوية.
في المدن الصاخبة، تظهر سجون غير مرئية: صور مثالية تروّجها وسائل التواصل، وسباق متواصل نحو ما لا يملكه الإنسان. وهنا يتضح الفرق بين الحرية المعلنة والحرية الحقيقية، وبين القيود الظاهرة والقيود الخفية التي يشترك فيها الجميع عبر الأزمنة والأمكنة.
ومع ذلك، يظل هناك أمل في فتح نوافذ صغيرة للحرية، كل فكرة جديدة، كل لحظة إدراك، كل تحدٍّ صغير للأغلال اليومية، هي مفتاح يذكّرنا بأننا لسنا مجرد سجناء للواقع، بل قادرون على التسلل إلى الحياة بوعي وإرادة.
في المغرب، حيث تتصارع روائح البخور والتبغ في الأزقة الضيقة مع عوادم السيارات في الشوارع العريضة، وتتشابك نسمات الحداثة مع عبق التقاليد، تمشي الحياة بخطوات خفية تصنع قيودًا لا تُرى. بين فجوات التعليم وتفاوت الطبقات وضغوط العائلة التي تفرض التوقعات، يعيش الكثيرون وكأنهم محاصرون في سجون غير مرئية، في بلد يسير على حبل مشدود بين ماضيه وأحلامه، تمسكه التقاليد وتدفعه الحياة إلى الأمام في آنٍ واحد.
لقاء القدر في زاوية المقهى
في زاوية مقهى قديم في ضواحي الدار البيضاء، حيث تتآكل حواف الطاولات الخشبية ويلتصق قاع الفنجان الطيني بالسطح، تناثرت ذكريات الزمن على الجدران العتيقة، وكأن المكان نفسه يتنفس قصص الأيام الماضية.
تنساب ألحان أم كلثوم في الهواء، ممتزجة برائحة النعناع ودخان السجائر، فتتداخل الموسيقى مع الروائح لتخلق هالة من الحنين، تجعل كل زاوية شاهدة على تاريخ حي لم يزل يهمس في أذن الحاضر.
هناك، جمعتهما الصدفة بعد عقود من الغياب، رجلان ظل الزمن يحاول طمس أثر كل منهما في ذاكرة الآخر، لكن اللقاء أعاد فتح صفحات قديمة، صفحات تحمل بين طياتها ضحكات وأسرار وألم الأيام التي مضت.
دخل يوسف مترددًا، تتبع الوجوه بخطوات بطيئة، حتى اصطدمت عيناه بإدريس الجالس في الركن. توقف الزمن للحظة، وصمت مربك غلف المكان، قبل أن ترتسم على وجهيهما ابتسامة مترددة، نصفها دفء الذكريات ونصفها الآخر غربة السنين، لتعلن بداية فصل جديد، حيث الماضي والحاضر يتشابكان في لحظة واحدة من الصمت والود.
تصافحا بيدٍ مرتعشة أثقلتها الأعوام، كأن كل لمسة تحمل تاريخًا من الانكسارات. جلس يوسف، يزيح الكرسي بخشخشة حديدية أيقت في داخله صخب الأزقة القديمة، بينما مد إدريس كفه ليمسح عن الطاولة ما يشبه غبار الغياب عن قلبه.
كانت التحية قصيرة، لكن العيون قالت ما عجزت عنه الكلمات؛ في عيني إدريس ظلّ السجن حاضرًا كظل بعيد، لم يمحِه الزمن بل صقله بصلابة هادئة، وفي نظرات يوسف ارتباك دفين، كمن عاش حرًا لكنه لم يتذوق طعم الحرية يومًا.
جلسا متقابلين، وبينهما مسافة واحدة لا تتسع إلا للزمن الضائع. عند تلك الطاولة الخشبية المتشققة، بدأ خيط الكلام يتشكل ببطء، فيما الماضي يمد يده ليجلس ثالثًا معهما. كان لا بد أن يُستعاد كل ما غاب، وأن تُفتح دفاتر العمر التي أُغلقت قسرًا أو طوعًا، لتتكشف الحكايات كما هي.
كان إدريس يشبه شجرة برية، تقف صامدة في وجه الريح، تزداد قوة كلما حاولت العواصف اقتلاعها.
الأسر الذي انقلب حرية
إدريس لم يكن رجلاً عادياً؛ في عينيه بريق هادئ كبحيرة صافية تعكس عمق تجاربه. قبل عقد من الزمان، كان يقبع وراء قضبان السجن المركزي بالقنيطرة، محاطًا بجدران شاهدة على آلاف الأرواح التي ذبلت أو نمت. لكنه رفض أن يكون مجرد رقم في سجل النزلاء، فحوّل محنته إلى مدرسة، وتخرج منها أصلب عودًا مما دخلها.
السجن الخفي
بينما كان إدريس يجد في زنزانته طريقًا للتحرر، كان يوسف يصارع سجنًا مختلفًا؛ لا جدران له ولكنه أقسى. حمل يوسف سجنه في داخله؛ لم تُغلق عليه أبواب الحديد يومًا، لكنه عاش أسيرًا دوامة الحاجة والمسؤولية. منذ طفولته، راوده حلم العلم والمعرفة، لكن الحياة باغتته مبكرًا بمعركة البقاء.
في عيني والدته، كان يرى مزيجًا من الأمل والخذلان، فتتضاعف المسؤولية على عاتقه ويكبر شعور الانكسار معه.
في شوارع المدينة، حيث تتصادم الأحلام مع الواقع، نسج المجتمع له قضبانًا غير مرئية: تعليم نادر، فرص محدودة، وقوانين اجتماعية أصلب من جدران الزنازين.
في بيته، لم يكن هناك متسع للأحلام، بل انتظار دائم لرغيف المساء. كانت الكتب رفاهية لا يقدر عليها، والإرهاق النفسي رفيقًا لا يفارقه. كل يوم يمر بلا تقدم يترك في روحه أثرًا عميقًا، كأن الزمن يهمس له بأن أحلامه ستظل حبيسة، ويسير مثقلاً بين وظائف عابرة وأبواب تُفتح لتُغلق سريعًا في وجهه.
ميلاد جديد بين الجدران
وبينما كان يوسف يقاوم سجنه الخفي، كان إدريس يجد في قيوده جسورًا للانطلاق، ليصنع من كل يوم درسًا في الصبر والأمل. وسط ظلام الزنازين، اكتشف نورًا داخليًا أضاء له الطريق نحو إعادة بناء ذاته. في لياليه الطويلة، كان الضوء الخافت من مصباح الممر يتلاقى مع وهج المعرفة والإرادة التي لا تنكسر.
لم تكن الرحلة سهلة؛ كانت البرودة قارصة، والوحدة قاسية، وصخب الزنازين يكاد يخنق أي بادرة أمل. ورغم ذلك، كان هناك شيء خفي يدفع النفس للاستمرار، شعاع صغير من الإصرار يرفض الانطفاء.
أصوات الأبواب الحديدية التي تُغلق كفرقعات تصفع الروح، تزيد الشعور بواقع السجن، بينما يصر نور المعرفة على التسلل إلى الداخل. ورغم قسوة الجدران، كان هناك مجال للروح أن تجد متنفسها، وهنا بدأت بذور التغيير تنمو بصمت.
لكن إدريس استغل صمت الممرات قبل الفجر، وحوّل زاوية زنزانته إلى جامعة مصغرة، كل كتاب فيها نافذة، وكل فكرة مفتاحًا جديدًا للحرية.
قاوم اليأس بالقراءة والكتابة، مستثمرًا كل دقيقة ليعيد تشكيل أحلامه بين الجدران الضيقة. أدرك أن الحرية ليست مجرد أبواب تُفتح، بل عقل يعرف كيف يشق طريقه وسط القيود.
الأسر الذي انقلب حرية
بعد عقد من الزمان، خرج إدريس من السجن وقد تحوّل من سجينٍ سابق إلى إنسانٍ جديد، حاملًا شهادة في العلوم الاقتصادية. لم يكن النجاح ثمرة إرادته فحسب، بل أيضًا بفضل دعم عائلته وبعض رفاقه الذين ساندوه داخل الزنزانة، ومدّوا له جسورًا لعبور هاوية اليأس.
في المقابل، كان يوسف يعيش حريته الظاهرة كما لو كانت سجنًا آخر. كل يوم يحمل في طياته قيودًا خفية: صراعًا مع الواقع القاسي، وخيبة الأمل في الفرص الضائعة، ومسؤوليات أثقلت روحه. لم يكن لديه سند، فكل خطوة نحو الضوء تتطلب قوة خارقة، بينما إدريس كان يعبر الظلام مستعينًا بعزيمته ومعرفته. رغم ذلك، لم يفقد يوسف فضيلة الصمود، وظل يحاول أن يجد لنفسه مساحة في عالم لا يرحم.
حين انفتحت أبواب السجن، لم يخرج إدريس مثقلاً بذكريات القيود، بل كمن يعبر عتبة ولادة ثانية. لم يعد ذلك الرجل المكسَّر، بل عاد وفي عينيه يقين جديد بأن الحياة تمنح فرصًا حتى من قلب العتمة. بالتحدي والدعم الذي تلقّى، استثمر طاقته في إعادة بناء ذاته، ليحكي للآخرين أن الهزيمة لا تُكتب إلا إذا استسلم صاحبها.
ندوب الاحتجاز
ورغم اختلاف السجنين، كان إدريس ويوسف يحملان الندوب نفسها. فالسجن الجسدي خلّف في روح إدريس خوفًا دفينًا وذكريات لا تمحى، بينما ترك السجن الاجتماعي في يوسف إحساسًا بالنقص وجراحًا تتجدد عند كل حاجز.
كلاهما أدرك أن القيود لا تكون دائمًا من حديد، وأن الجدران قد تُشيّد أحيانًا من فقرٍ أو من زمنٍ يسرق الأحلام. وفي هذه الندوب، تكمن الدروس التي تصقل الإنسان، وتعلّمه كيف يستمد قوته من أعماق معاناته.
كما قال نيتشه: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”، فالندوب هي التي تشكل الإنسان وتعيد له قوته.
مرايا السجن
في زحمة المدن وضجيجها، لا يحتاج الإنسان إلى جدران عالية ليُسجن؛ تكفيه أوهام تُزيَّن له كل يوم. فالإعلانات وواجهات الحياة الافتراضية تعرض صورًا مثالية، تدفعه إلى مطاردة سراب لا ينتهي. وهناك، وسط الركض المحموم، يصبح أسير المقارنات والانتظارات، فيعيش حرًّا في الظاهر لكنه محاصر بأغلال خفية لا تقل قسوة عن الحديد.
تنهد يوسف وابتسم ابتسامة خفيفة:
“السجن الحقيقي ليس في المكان، بل في الاستسلام له. كنت أشعر أن القيود تلتف حولي حتى خارج الزنزانة؛ هموم العائلة، ثقل المسؤوليات، وضيق الأفق جعلتني غارقًا في وحل لا أستطيع الفكاك منه. وأحيانًا كنت أجد نفسي سجين هذا الهاتف الذي أحمله، أنتقل بين تطبيقاته كأنها زنازين، أتابع حياة الآخرين المثالية فأشعر أن سجني أضيق، وأضيع ساعاتي في دوامة لا طائل منها. ورغم هذه القيود، كان هناك شعور خافت يدفعني للاستمرار، رغبة في البحث عن منفذ وسط الظلام.”
ثم أضاف بصوت منخفض:
“كنت أحمل عبء الغد فوق كتفي، أخشى أن تنهار أحلامي قبل أن ترى النور. وزوجتي، التي تتحمل ثقل البيت والأسرة، كانت بدورها مقيدة بفرص ضئيلة لتحقيق ذاتها. أحيانًا ترفع إليّ نظرة تجمع بين الشفقة والرجاء، كأنها تنتظر مني أن أكون البطل الذي يغيّر واقعنا، فيما أجد نفسي أخيب أملها كل يوم. عندها أدركت أن القيود لا تكون دائمًا من حديد، بل قد تتجسد في مشاعر صامتة وعلاقات مثقلة بالانتظار.”
هذا النظر أصبح قيدًا خفيًا، يذكرني بأن القيود ليست دائمًا صلبة؛ أحيانًا تكون صمتًا، نظرة، أو عادات متجذرة تمنع الإنسان من التحرك. وفي زاوية المقهى، كان هناك مفتاح قديم على الطاولة، يلمع بضوء خافت، كرمز صامت للحرية التي نبحث عنها جميعًا.
وسط هذه التأملات، شعرت بأن كل من حولي، رغم القيود، يبحث عن نافذة صغيرة للحرية، كنافذة ضوء تتسلل إلى زوايا الروح المظلمة. كان سعيهم هو ما يمنح الحياة معناها ويخلق بصيص أمل، كأن كل شعاع صغير من الحرية يُشعل في الداخل شمعة، تنير الطريق للآخرين قبل أن تضيء لنفسه. وعندما التقطت المفتاح بين يديّ، شعرت أن الإمكانات موجودة، وأن كل قيد يمكن تجاوزه بإرادة وعزم.
رفع إدريس رأسه، ونظر بعمق إلى عيني يوسف، ثم قال بهدوء:
“كنت أواجه ردود فعل المجتمع بعد خروجي من المعتقل؛ البعض كان يتعامل معي وكأنني مخلوق خطر، والبعض الآخر، خاصة من دعموه، رأى في قصتي برهانًا على أن التغيير ممكن.
كانت نظراتهم مرآة أرى فيها أحيانًا سجني القديم، وأحيانًا الإنسان الجديد الذي صنعته. ومن خلال ذلك، تعززت قناعتي بأن الحرية الحقيقية ليست مجرد مكان، بل تجربة يتأثر فيها الفرد ويؤثر في من حوله. وكأن كل نافذة أمل نفتحها لأنفسنا تضئ طريق الآخرين أيضًا، وتعيد إشعال شعلة الحياة فينا. هذا المفتاح، مهما كان صغيرًا، يذكرنا دائمًا بأن الباب مفتوح لمن يسعى.
شعاع بين الاغلال
ثم تنهد إدريس بعمق، وأضاف بصوت هادئ وكأن الزمن يقف لحظة عند كلماته:
“اليوم، أنظر إلى تلك السنوات في السجن ليس كعقاب، بل كمحنة ضرورية لفهم محنتي مع نفسي. هناك، في العزلة، سمعت صوت قلبي لأول مرة. أحيانًا تحتاج الروح إلى أن تُحبس في مكان ضيق لتتسع، ولكي تستطيع أن ترى الطريق الحقيقي للحرية داخلك قبل أن تلمسه في العالم.”
أطرق إدريس رأسه قليلًا، ثم أضاف بتأمل:
“لكن ألا ترى أن الاستسلام لتلك القيود هو اختيار أيضًا؟”
قطّب يوسف حاجبيه، متأثرًا بالكلمات:
“اختيار؟ وكيف يكون اختياري أن أُسحق تحت ثقل المسؤوليات التي لم أخترها؟”
ابتسم إدريس بهدوء، كمن جرّب مرارة السقوط، وقال:
“المسؤوليات لا تزول، لكن طريقة حملها هي ما نصنعه نحن. كنت أعتقد أن الماضي حكم نهائي، وأن نظرات الناس سياج لا يمكن تجاوزه. لكنني اكتشفت أن الخوف هو السجن الأكبر، وأن الحرية تبدأ من داخل النفس قبل أن تظهر في العالم الخارجي.”
سكت يوسف برهة، ثم قال مترددًا:
“وماذا لو حاولت فسقطت؟ ألن يكون السقوط أقسى من القيد؟”
قال إدريس بعينين لامعتين:
“الخطيئة يا صديقي ليست في السقوط، بل في رفض النهوض. هنا، بين الجدران، وُلدت من جديد. كنت أقول لنفسي: إمّا أن أظل أسيرًا حتى بعد خروجي، وإمّا أن أصنع حرية تولد من رحم القيود.”
ارتسمت على وجه يوسف ابتسامة نصفها استسلام ونصفها تساؤل:
“وكيف يصنع الأسير حريته؟”
الحرية التي صنعتها الإرادة
أجاب إدريس وهو يتذكر بريق تلك الأيام، وصوت الماضي يهمس في أذنه:
“بالإرادة… وبمن يمد لك يدًا في العتمة. كنت أتعلم وأحلم خلف القضبان، وأحيانًا شعرت أن كل يوم يمر هو سجن جديد من الصمت والوحدة. وبعد خروجي، لم يكن الطريق مفروشًا بالورود؛ الشكوك تحاصرني، والتمويل يصدّني، ورفضت خمس مؤسسات تمويلي، قائلين: ‘سجلك يشير إلى مخاطرة عالية.’ كاد اليأس يعود، لكن ذكرت أيام الزنزانة، فقلت لنفسي: إذا استطعت التعلم هناك، فأستطيع أن أجد من يؤمن بي هنا.
وبفضل دعم الأحباء والأقارب، فتحت مطبعة صغيرة بعرق الجبين. كانت بدايتها متواضعة، لكن كل صفحة مطبوعة، وكل حرف خرج إلى العالم، كان بمثابة مفتاح صغير يفتح نافذة جديدة للحرية. ومع الوقت، تحوّلت هذه إلى قصة نجاح، لم يكن ذلك سهلاً، لكنه كان ممكنًا لأنني رفضت أن أبقى سجين الماضي. كل عقبة واجهتها كانت شمعة أضاءت لي الطريق، وكل فشل صغير كان يعلمني أن الحرية تبدأ من الإصرار على النهوض من جديد.”
نظر إليه يوسف بدهشة ممزوجة بالإعجاب:
“مطبعة؟! وكيف واجهت كل تلك الجدران الجديدة؟”
ابتسم إدريس ابتسامة هادئة:
“كما واجهت الجدران القديمة… بالصبر والعناد، اكتشفت أن الإرادة وحدها لا تكفي، فلا بد من دعم من نحب، ومن قصص تُضيء الطريق وتمنحنا الشجاعة للاستمرار.
كنت أستمد قوتي من رفاق الزنزانة الذين قاوموا قيود السجن معي، ومن مناضلين حملوا أعباء أشد مني. وكان للقراءة أثرها العميق في تلك العزلة؛ بين الصفحات تعرّفت على فنانين وشخصيات صنعت من الألم قوة.
هناك، في كتاب قديم مرّ بين أيدينا سرًا، اكتشفت حكاية فيكتور خارا، الفنان الشيلي الذي عُذّب حتى الموت لكنه ظل رمزًا للصمود والإصرار.
كنت أقرأ عن أغانيه الثورية، فأسمعها في مخيلتي كأنها تتردد بين جدران الزنزانة، تمنحني عزيمة لم أكن أظن أنني أملكها. قصته، ومعها تلك الأصداء البعيدة للموسيقى التي لم تصلني إلا عبر الكلمات، كانت مصابيحي في العتمة، تنير لي الطريق وتمنحني القدرة على مواجهة الأغلال يومًا بعد يوم.
وكان يوسف، وهو يصغي، يشعر أن كلمات إدريس لا تحكي فقط عن الماضي، بل تضيء شيئًا في داخله هو أيضًا، كما لو أن تلك المصابيح الخافتة تسللت إلى قلبه.
بصيص الأمل
ظل يوسف يستمع، وصوت داخلي يتصارع فيه:
“هل سأترك لأبنائي إرثًا من الأمل أم أثقالًا من العجز؟”
كان داخله صوت يهمس: “استسلم… فما جدوى المحاولة؟” وآخر يصرخ: “انهض، فالحياة لا تنتظر المترددين.”
قال إدريس وهو يمد له كوب القهوة:
“الناس يظنون أن السجن محصور في الأسوار الشامخة، لكن هناك سجونًا أخرى لا تُرى. ومع ذلك، لكل باب مغلق نافذة صغيرة تنتظر من يفتحها.”
همس يوسف بعينين دامعتين:
“لم أدخل السجن يومًا، لكن لم أشعر بالحرية قط… سجون الخوف، وسجون الواجبات التي لم أخترها، وسجون الأحلام التي تموت قبل أن تولد.”
أجابه إدريس بابتسامة واثقة:
“لم لا تبدأ من جديد؟ هناك إمكانيات واسعة تنتظرك في الفضاء الأزرق، دورات مجانية متاحة، ومطبعتِي بحاجة إلى يد أمينة. ليست البداية هي الصعبة، بل القرار أن تتحرر من خوفك.”
تردّد يوسف لوهلة، ثم رفع كوبه في صمت. كانت لحظة بسيطة، لكنها عميقة؛ شعلة أضاءت له الطريق، خيط ضوء في نهاية النفق.
أزقة الواقع ونوافذ الأمل
أدرك الرجلان أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع. قد تكون الجدران من حديد أو من فقر، من نظرات الناس أو من قسوة الزمن، لكن التحرر يبدأ حين يرفض الإنسان الاستسلام ويخطو نحو النور خطوة بعد خطوة.
وكما قال ابن رشد: “الحرية أن يعرف الإنسان نفسه، ويعرف حدوده، ثم يتجاوزها.”
إدريس عرف حدوده وتجاوزها، ويوسف بدأ لتوّه يكتشف أن الأمل نافذة صغيرة يمكن أن تتحول إلى باب واسع.
إرادة تتجاوز القيود
وفي صمت المقهى، كانت فناجين القهوة تبرد ببطء، فيما ظل الكلام الساخن يشتعل بين السطور غير المنطوقة. لم يكن لقاؤهما مجرد مصادفة عابرة، بل كان مرآة انكسرت إلى صورتين؛ واحدة خرجت من السجن الحديدي لتبني مطبعة صغيرة تحوّل الحبر إلى أجنحة، وأخرى ما زالت تبحث عن نافذة في جدار خفي، تتلمس طريقها بين الخوف والأمل.
هناك، أدرك يوسف أن الحرية ليست وعدًا يُعطى ولا هدية تُمنح، بل قرار داخلي يولد في لحظة مواجهة الذات. وأدرك إدريس أن نجاحه لم يكن في المطبعة وحدها، بل في أن يحوّل سقوطه إلى بداية، وجرحه إلى مدادٍ يكتب به معنى جديدًا للحياة.
فالحرية ليست ضوءًا ننتظره من الخارج، بل شعلة نوقدها في أعماقنا حين نرفض الانطفاء.
وهكذا، ترك الرجلان وراءهما درسًا لا يُمحى:
“إن السجون الحقيقية ليست دائمًا من صلب أو قضبان، بل قد تتشكل من فقرٍ أو خوفٍ أو عادةٍ قديمة. غير أن الإنسان، كلما اختار أن ينهض، يكتشف أن بين أضلعه بابًا خفيًا، مفتاحه الإرادة، ومفتوح على اتساع السماء.”
في كل قلب يقاوم الاستسلام، يكمن باب خفي، ومفتاحه الإرادة، يفتح على سماء لا يعرفها إلا من اختار النهوض رغم كل القيود. كل خطوة صغيرة نحو التحرر، كل فكرة تُحرر العقل، هي شعاع ضوء يُعيد إشعال الحياة في الروح.
فاسأل نفسك: أي السجون تختبئ في زوايا روحك؟ وأي مفاتيح تملكها لتفتحها؟ وهل ستختار أن تظل محتجزًا، أم ستنطلق نحو الحرية التي تبدأ من داخلك؟