راوول مسيليتا
في قلب فن الطهي المكسيكي، يوجد طبق شهي تجاوز الحدود والعصور اسمه “غواكامولي” وهو عبارة عن صلصة خضراء دسمة.
في وعي المواطن المكسيكي، فإن مجرد سماع اسم فاكهة “أفوكادو”، تجعله يستحضر صور التجمعات العائلية والحفلات النابضة بالحياة، لأنها النكهة والطعم الشهي، بل رقصة، كدلك، من مكوناتها الأساسية، تعبير عن الأرض التي تغذيها وتولد من رحمها الباطني. كما تعد، بالنسبة له، من مكونات الإلهام: في أنقى صوره.
قصيدة شعرية متألقة
تعتمد أكلة “غواكامولي” على الأفوكادو، تلك الفاكهة الخضراء التي تداعب الحنك بنعومتها. وتتشكل عند إعدادها كقصيدة شعرية متألقة يجيد اللسان الذواق قراءتها.
يمتزج الأفوكادو مع جوهر المكونات الأخرى: لمسة من الكزبرة الطازجة التي تُضفي نكهات عشبية مشهية؛ وحمض الليمون المعصر و المتلألئ الذي يُنعش كل نكهة؛ ولمسة من الملح تُعزز قوام وجبة الصلصة وتعمق من قيمتها الغدائية.
“غواكامولي” طعم وجمالية استثنائية
غالبًا ما تنضم الطماطم إلى هذه السيمفونية التي يجيد أداءها مايستروات المطابخ المكسيكية، التي يعطونها من إيقاعات تقنياتهم الدقيقة مُضيفةً جمالية استثنائية وطعم هو الآخر، فضلا عن تحويل صحن “غواكامولي، في نهاية المطاف إلى لوحة تشبه اللوحة التشكيلية في بلد المرأة الخالدة “فريدة كحلو.
و لنكمل الحديث عن باقي مكوناتها التي تأخذ مكانها كأبيات شعرية او نوتات في قطعة موسيقية: البصل بقرمشة خفيفة يبدو كعماد نابض بالحياة. وعندما تسمح الحالة المزاجية للشاف، الطباخ الماهر الدي يحفظ سر صناعة اكلة الأفوكادو، يُمكن له آنذاك، إضافة بعضا من فلفل “سيرانو” الحار إلى مكوناتها الممزوجة طمعا في الارتقاء ب “غواكامولي” إلى آفاق جديدة، بعيدة في الخيال وقريبة من شهية أي ضيف قد يكون له الحظ في تذوقها والاستمتاع بنكهتها وطعمها .
طقس شعري يلهم المكسيكيين
ولتقنية إعداد “غواكامولي” طقس شعري يلهم المكسيكيين بالتواصل. والأداة التي ترسم هدا الطقس، سكين حاد، تُشق به ثمرة “الأفوكادو”، كاشفة عن لبها الزمردي.
وبملعقة، ينزع اللب برفق من البذرة ويوضع في الصحن، حيث يبدأ السحر في الظهور. هنا، تكمن التقنية في المقام الأول؛ يجب هرسها بحب من اجل تحويل الفاكهة إلى كريمة دسمة، دون أن تفقد جوهر قوامها.
ثم تُفتح أبواب الإبداع كما تخصص فيه طباخو المكسيكيين حيث يدمجون كل مكون بدقة، كما لو أنهم يؤلفون قطعة موسيقية اعتمادا على اختيار دقيق للنوتات المثالية لتحفة سمفونية.
نكهات تتوسل المشاركة
و قبل الانتهاء من هدا الورش المنتمي لعالم فنون الطبخ، رشة ملح حسب الدوق، عصرة ليمون، حفنة من الكزبرة المفرومة، وطماطم مقطعة مكعبات، تتساقط كبتلات الزهور.
وفي الأخير يبدو مزيج “غواكامولي” كقصيدة كتبتها الأيدي، بنكهات تتوسل المشاركة في تجربة التذوق.
أكلة “غواكامولي” ليس مجرد طبق جانبي؛ إنه روح كل تجمع وهو سيدة تتربع وسط المأكولات المكسيكية فوق المائدة كنجمة خضراء. تقدم في وعاء خاص، محاط برقائق رغيف “التورتيا” المقرمشة.
توقظ الحواس تلو الأخرى
كل لقمة من هده الأكلة هي انفجار لنكهات تعيد تشكيل شهية كل من سمحت الظروف أن يستمتع بتناولها، فضلا عن أنها توقظ الحواس تلو الأخرى، وتجعل من الأذواق لحظة نهمها متشابكة في تجربة مشتركة. إنه احتضان العائلة، وغناء الضحك، واحتفال باللحظة.
عندما نستمتع باكلة “الغواكامولي”، لا نستمتع فقط بثرائها فحسب، بل نغوص أيضًا في التاريخ الذي يحمله: تراث الشعوب الأصلية، وعمل المزارعين الذين يعتنون بالأرض بحنان، وسحر مطبخ في تطور دائم يرافق حياة الانسان.
الطعام صلة تتكيف فيها العاطفة
وفي كل تقديم، تذكرنا اكلة “غواكامولي” بأن الطعام أكثر من مجرد غذاء وملأ المعدة؛ إنه صلة تتكثف فيها العاطفة، وفن ينمو على الدوام ويتكيف مع متطلبات التطور الدي تنشده الفنون الأخرى. لذا، عندما يُوضع طبق أكلة “غواكامولي” على المائدة، فهو ليس مجرد طبق، بل هو جمالية تغدي الرؤيا، وهي تكريم للتقاليد، وللأرض، وللمجتمع الذي يتشاركها.
كل مكون فيها يروي قصته
وجبة “غواكامولي”، سمحت لي الظروف في مدينة أطلنطا بولاية جيورجيا أن أتعلمها وأتقن إعدادها على يد طباخين مكسيكيين، واعتبرها اكثر من مجرد صلصة؛ إنها واحدة من المقبلات الي تفتح شهية الأكل، واتخيلها باستمرار قصيدة ساحرة، يروي كل مكون فيها قصته الخاصة، وتتحول فيها تقنية التحضير إلى رقصة شعرية. واكون حدرا جدا من السكين الحادة التي تعلمت استخدامها بسرعة فائقة حتى لا أصاب بجروح و يحرم الضيوف من تناول الوجبات المقرر تحضيرها. و هي في دات الوقت رمز للثقافة المكسيكية، فن يعكس بهجة الحياة وثراء روابط المكسيكيين، وسحر موسيقى “الرانشيرا” التي راكمت عبر التاريخ تراثا غنائيا أتذكره كلما هممت بإعداد “غواكامولي.