محمد التاودي
البكاء هو اللغة السرية التي تتحدث بها الروح عندما تعجز الكلمات عن التعبير، وَيُنسَجُ منها نسيجُ الحنين والوجع في صمت الليل الطويل. فهو ليس ضعفًا، بل صرخة صامتة تنبع من أعماق الإنسان، يترجم فيها القلب مشاعره العميقة ويكشف في الوقت نفسه هشاشة النفس وقوتها، وهو نافذة تُفتح لفهم الذات والآخرين. في تلك اللحظات، تتحول الدموع إلى جسر يصل بين الداخل والخارج، مانحةً الإنسان فرصة صادقة لاكتشاف ذاته وفهم من حوله.
البكاء: العلاج الطبيعي للتوتر
والبكاء ليس مجرد انفعال عاطفي عابر، بل هو فعل بيولوجي يوقظ الروح وينعش الجسد. فقد أظهرت أبحاث علم النفس، مثل دراسات بول إكمان، أن الدموع تحمل في طياتها مواد كيميائية كالإندورفين تُخفف التوتر وتعيد للنفس توازنها. وعندما تنساب الدموع، يطرح القلب أثقال الحزن ليولد الإنسان من جديد أكثر صفاءً وقدرةً على الإصغاء لذاته ولمن حوله.
صرخة تعانق الصمت
وما البكاء إلا نبضٌ يعلو من أعماق الجسد، يروي العينين ويُحَشْرِج الحلق، كموجة بحر تعبر من أعماق الروح إلى شاطئ الوجنتين. هو انكسارٌ داخلي يبحث عن مخرج، وندبةٌ مرئية على الجلد تخفي ندبات أعمق في القلب، تذكّرنا أنَّ الألم الذي نحمله لا يُمحى بالكلمات، بل بالاعتراف الصادق بمشاعرنا والسماح لها بالخروج.
أنين يخلد السريرة
في المغرب، حيث تتشابك الأعراف مع نبض الحياة اليومية، يُنظر إلى البكاء أحيانًا كعلامة ضعف عند الرجال، فيما يُسمح للنساء بالتعبير عنه في لحظات الحزن. غير أن الأمثال الشعبية، مثل: “الدمعة تطهر القلب قبل العين”، تذكّرنا أنَّ الدموع ليست سوى وجه آخر للشجاعة، وأن البكاء جزء من إنسانيتنا لا يَنْتَقِص من قوتنا، بل يعيد التوازن إلى روحنا.
دموع بصوت العالم
في المقابل، نجد في ثقافات أخرى مثل اليابان أن البكاء يُشجَّع في مناسبات معينة كتطهير للروح، وفي المجتمعات الغربية أصبح من المقبول أكثر للرجال التعبير عن مشاعرهم، كما نراه في العديد من الأفلام والأدب، حيث تُستعمل الدموع كأداة للكشف عن عمق الإنسان وصراعه الداخلي.
همسات الدموع الصامتة
في صخب الحياة اليومية، يبقى للبكاء طعم خاص لا يدركه إلا من جعل قلبه مستقراً في فوضى المشاعر. ليس مجرد دموع منسابة، بل لغة القلب حين يعجز اللسان عن التعبير، وحديث النفس الصادق عن الألم والفرح المكبوت. في كل قطرة حكاية، وفي كل همسة سؤال لا يجد له جواب إلا في صمت الدموع.
أطياف فوق المدينة
ما أعظم تلك اللحظات التي يتوقف فيها الزمن، فتجد نفسك عارياً أمام الحقيقة. تتناثر الذكريات، وتلتقي الآلام في رقصة مرهقة لكنها حقيقية. فالبكاء ليس ضعفًا، بل تعبير عن إنسانيتنا وتوقنا إلى الشفاء. حين تنهمر الدموع، يجد الإنسان قوته الحقيقية، ويبحث عن النور وسط العتمة. وما أكثر المواقف التي تختبر فيها هذه اللغة الصامتة، كما حدث في تلك الأمسية داخل شقة الحاج عابد في قلب حي بلفيدير بالدار البيضاء.
مساء يهمس دفئًا
في مساءٍ ناعم، كان ضوءُ الشفقِ يتسللُ بخجل عبر النوافذ، فيما تراقصت أشعة الشمس الأخيرة على الأفق كخيوطٍ ذهبية تذوب في بحرٍ من الحنين. ومع تلاشي النهار في صمتٍ مهيب، خيّم على المكان سكونٌ عميق، وكأن الزمن نفسه قد انحنى أمام لحظةٍ من التأمل.
داخل الشقة، كان دفء اللقاء يملأ الأرجاء. الدار البيضاء، بصخب شوارعها وسكون أزقتها، كانت مرآة لأرواح الحاضرين، حيث تختلط أصوات البكاء والضحك في نسيج واحد يعكس الحياة. رحّب الحاج عابد وزوجته نادية بجيرانهما القدامى، الأستاذ إبراهيم وزوجته سعاد، فيما أضفى سفيان، ابن الحاج عابد، حيوية الشباب على الأجواء.
وفي قلب هذا الدفء الإنساني، حضرت المائدة المغربية لتضيف بُعدًا آخر من الألفة والجمال. كانت مزدانة بألوان زاهية، بدت كلوحة حية: رغائف ذهبية، وحلويات تقليدية، ومكسرات تنبض بالأصالة، وأكواب شاي تفوح منها أبخرة عطرة تغلف المكان بطمأنينة خاصة. لم يكن الطعام مجرد زاد للجسد، بل جسراً نحو دفء القلوب وتلاقي الأرواح.
حوار يسبق العاصفة
جلسوا جميعًا حول المائدة، حيث امتزج دفء الأطباق بحرارة الحديث. وانتقل النقاشُ بخفةٍ من السياسة التي تثير القلق وتوقد الأمل، إلى الرياضة التي تُنعش الروح وتُشحِذ الحماس، ثم غاصَ الحاضرون في همومهم الاجتماعية، متوقفين عند ثقل الأوضاع الاقتصادية وتقلّباتها التي ترسم ملامح حياتهم اليومية.
ومع كل كلمة، بدا الحديث أشبه برحلة صادقة تجوب تضاريس الحياة، من قسوتها إلى أحلامها، لتتوج بلحظة إنسانية نادرة يتقاسمون فيها ثقل الواقع وبصيص الأمل، في جو من الألفة والتفاهم. وكأن الزمن توقف ليمنحهم نعمة اللقاء، مذكّرًا إياهم بأن دفء القلوب أعظم من برودة الأيام، وأن جمال اللحظة قد يكون أحيانًا أجمل من كل انتظار.
صوتٌ يقطع الصفاء
لكن هذا الصفاء لم يدم طويلًا؛ إذ قطعته فجأة نغمة غريبة، بكاء يتسلل من خارج الشقة، كجرس خفي يوقظ ما كان نائمًا في الأعماق. لم يكن مجرد صوت عابر، بل حمل ثِقلاً كثيفًا، كأن الماضي كله انفجر دفعة واحدة ليصل الحاضر، محمَّلًا بمرارة الألم.
ساد الصمت، وغمرت الجلسة كآبة غير متوقعة، حتى بدا وكأن الجدران نفسها تنصت. ارتفعت الأسئلة في النفوس بصوت أعمق من الكلام: ما سرّ هذا البكاء؟ ولماذا جاء الآن؟ وكأن الوجود كله توقّف ليستمع إلى رسالة غامضة تسكن ما وراء الصوت.
توجهت الأنظار نحو النوافذ، تبحث في عتمة المساء عن خيط يكشف اللغز. ومع امتزاج الغموض بالحنين، بدا البكاء أشبه بستار يُسدل على المكان، ليجعل كل واحد من الجالسين وجهاً لوجه مع ذكرياته، مع جرح قديم لم يندمل بعد، أو فقدان ظل مختبئًا خلف صمت الأيام.
البكاء: الصرخة الصامتة التي تهدئ الروح
ثم جاء التوضيح المنطقي للمصدر؛ تبين أن البكاء جاء من شقة الجيران الذين تلقوا خبرًا حزينًا عن وفاة قريب لهم بشكل مفاجئ. ارتفعت همسات من خارج الباب، وسرعان ما وصل اتصال هاتفي لاحق من أحد الجيران يشرح الموقف، ليكشف أن الصوت لم يكن صدفة درامية، بل انعكاسًا واقعيًا لحزن عميق ومباشر، ما جعل اللحظة أكثر مصداقية وعمقًا في تأثيرها على الحاضرين.
وفي تلك اللحظة المشحونة، ارتجف كوب الشاي في يد سعاد قليلاً، وتوقفت نادية عن المضغ، وبدا على سفيان أنه حبس أنفاسه للحظة. حتى حاجب الحاج عابد ارتفع قليلًا، وكأن الصوت نقر على وتر قديم في ذاكرته، جاعلاً الجميع يعي شعور القلق والغموض بشكل ملموس ومؤثر.
وتدريجيًا، بدأ أثر الصوت يتغلغل في أرجاء الغرفة، مسيطرًا على الانتباه، وكأن الحاضرون جميعًا أصبحوا رهائن لتلك اللحظة الغامضة.
كان وقع الصوت أقوى من مجرد صدى؛ إذ بدا وكأنه يسحب الستار عن ذكرى قديمة لا يمكن تجاهلها، ليجد كل واحد منهم نفسه أمام بحر من الأسئلة دون دليل على كيفية الإبحار فيه. لحظة امتزج فيها الحزن بالفضول، وجعلت الحاضرين يشعرون أنهم أمام سرٍّ أكبر منهم، عميق وغامض، لا يُكشف إلا بمواجهة الحقيقة التي تخبئها العتمة.
صراحة المشاعر تبدأ
وفي ظل هذا الصمت الثقيل، تبادلت العيون تساؤلات صامتة، فيما ارتجفت القلوب على نحو خفي. نظرت نادية بقلق، وسفيان يعتصر قلبه، والأستاذ إبراهيم ظل صامتًا يراقب كل حركة، بينما سعاد مسحت وجهها كأنها استدعت ألمًا قديمًا. عندها همس الحاج عابد بصوت منخفض: “شيء من الماضي يعود”، محاولًا تهدئة الجميع واحتواء التوتر الذي خيّم على الغرفة.
لكن ما زاد الموقف ثِقلاً أن الحاج عابد نفسه لم يكن مطمئنًا؛ إذ شعر بأن في الجو شيئًا يذكّره بأيامٍ مضت، أيام تعصر قلبه بحنين ممزوج بالخوف، وكأن السنين عادت فجأة لتفتح جروحًا قديمة طالما حاول نسيانها.
ومن هذا المناخ المتوتر، تداخل الحزن بالفضول، وانشغلت القلوب بالهمسات التي حملها البكاء، وكأنها رسالة غامضة تنتظر الكشف. وفي محاولة لكسر الصمت، مسكت سعاد كوب الشاي، ثم تنهدت وقالت بصوت خافت:
“هذا الصوت القادم من الخارج يذكرني برحيل أختي، فيغمرني شعور بالانهيار ويوقظ جروحًا قديمة لم تلتئم بعد. لم يكن انهياري ضعفًا، بل طوق نجاة يحرّر روحي من صمتها ويعيد لي إحساسي بالحياة. البكاء لا يعيد المفقود، لكنه يخفف الألم ويمنح القلب فرصة للتنفس.”
ثم تابعت بصوت مرتجف يختلط فيه الحزن بالحنين:
“حينها تذكرت رحيل شقيقتي وكيف شعرت وكأن شيئًا في داخلي قد تهاوى، كأن الزمن توقف عند لحظة الفقد. لم يكن استسلامًا، بل صلاة صامتة تذكّرني بأنني ما زلت قادرة على الإحساس، وأن الحزن مهما اشتد لا بد أن يجد له مخرجًا.”
سعاد، بصوتها المتهدج، أخذت تحكي عن دموعها وحدودها، عن كيف أن للبكاء فضيلة التطهير، لكنه قد يتحول أحيانًا إلى عبء إذا استمر دون مواجهة أسبابه العميقة. البكاء المفرط قد يكون علامة على حزن دفين أو اكتئاب يحتاج إلى دعم نفسي أو مهني. كما يقول المثل: “الدمعة تنظف العين، لكن العقل يحتاج إلى يد تمسح الوجع.” فالقوة الحقيقية ليست في البكاء وحده، بل في الشجاعة للبحث عن العلاج حين تصبح الدموع سجناً.
أنين يبوح سرًا
ومع انحناء رأسها نحو الكوب، مرت لحظات طويلة من السكون قبل أن يكسرها صوت سفيان، وقد بدا كأصداء عميقة تتردد في أرجاء المكان. رفع نظره بعيدًا، وقال بصوت منخفض يحمل مسحة حزن:
“أحيانًا نحب أن نُقنع أنفسنا بأننا أقوى من كل ما يؤلمنا. نكتم ما نشعر به، ونرتدي قناع القوة. لكن الحقيقة تظهر فجأة، حين تأتي اللحظة التي تكسرنا من الداخل… تنهيدة واحدة تكشف وجعًا قديمًا كنا نظن أننا نسيناه.”
عادت النياحة من جديد بعد توقف، نياحة خافتة تخترق صمت الغرفة ببطءٍ مستمر، ليس بانفجار مفاجئ، بل كهمس طويل يلامس الأعماق. ومع مرور اللحظات، بدأ صوتها يتضاعف تدريجيًا، إذ بدا أن النياحة لم تعد مقتصرة على شخص واحد، بل صادرة من عدة أصوات، كما لو أن كل حضور يحمل جزءًا من حزنه، وكل قلب يبعث برسالة دفينة عبر الدموع.
كل نفس من الحاضرين أصبح أكثر حساسية، وكل قلب أكثر استعدادًا لمواجهة ما يختبئ في أعماقه. النياحة لم تعد مجرد صوت من الخارج، بل صارت جسرًا حقيقيًا يربط الأرواح بعضها ببعض، ويستحث الحوار الداخلي، ويزيد من عمق التأمل في حاضرهم وماضيهم، ويمنح اللحظة وزنًا شعوريًا لم يعرفوه من قبل. كأن الغرفة بأكملها تحولت إلى سمفونية من المشاعر، تتدرج من الحزن الفردي إلى الانفعال الجماعي، فتتلاحم الدموع في نغمات متواصلة لا تُنسى.
ومع تعدد النياحات وتداخلها من أكثر من قلب في الغرفة، بدأ الحاج عابد يرى بصيصًا من الضوء في عمق التجربة: تمامًا كما تتعدد أصوات النياحة، لا يختص البكاء بالحزن وحده؛ فقد ينبثق أيضًا من الفرح، ليصبح لغة جماعية توحد القلوب.
“لماذا أخفينا آلامنا كأنها عار؟”
صوت الجماعة الدفء
وهنا تذكّر الحاج عابد مشاهد الجماهير المغربية، لحظات اجتمع فيها البكاء كتجربة جماعية. في فرحة وصول المنتخب الوطني إلى المربع الذهبي في كأس العالم بقطر، اختلطت دموع الفرح بالهتافات في شوارع الدار البيضاء، حتى بدت المدينة تحتضن أحزان وأفراح سكانها.
على الشاشة، ظهر رجل من الجمهور، عينيه غارقتان بالدموع، يصرخ فرحًا كما لو كان يطلق كل كتماته دفعة واحدة، ويده ترتعش في الهواء، وكأن قلبه يطفو على سيل الانفعال. وهكذا، لم يعد البكاء مجرد انفعال شخصي، بل صار جسرًا يربط الأفراد بجماعتهم، مذكّرًا بأن ما يهز الروح قد يكون مشتركًا، وأن الدموع أحيانًا لغة وطن كامل، تتناغم كسمفونية من المشاعر بين الحزن والفرح، بين الفرد والجماعة، بين الداخل والخارج.
وتلك الصور الجماعية لم تكن مجرد ذكريات على الشاشة، بل صدى حي لما يحدث في الغرفة؛ فكما تتحد أصوات النياحة من أكثر من قلب، تتحد الدموع والفرح في قلوب الحاضرين، فتتشابك المشاعر الفردية مع الجماعية كأنها سيمفونية واحدة من الصمت والوجع والفرح.
هذا الانسجام العاطفي أتاح لسفيان أن يشعر بأن تجربته الخاصة ليست منعزلة، بل هي جزء من لغة أوسع توحد القلوب، فتمنحه الشجاعة ليشارك حكاية حياته ويضيف نغمته إلى هذه السيمفونية الإنسانية.
دموع تحمل حكايات
ومن هذا المنطلق، بدأ سفيان الحديث عن تجربته الخاصة: “ذات يوم، سقطت من الدراجة وأصبت، لكنني قمعت دموعي أمام أصدقائي. عدت إلى البيت، وحدي في غرفتي، وانفجرت. كنت أبكي على جرحي، ولكن أكثر على غبائي.”
نظرت إليه سعاد بصوت هادئ: “مُحِقّ يا سفيان. القوة في مواجهة المشاعر، لا في إخفائها. البكاء يزورنا في الحزن والفرح، كرياضي يبكي على المنصة. صغيرة كنت أختبئ لأبكي خوفًا من الضعف. اليوم أعرف: هو شجاعة.”
ثم وسّعت حديثها لتشمل تجربة أوسع: “القوة الحقيقية تكمن في مواجهة المشاعر، والسماح لأنفسنا بالشعور بكل شيء، حتى لو كانت الدموع الطريق الوحيد للتعبير. الألم يمر، لكنه يكشف جوانب من أنفسنا لم نكن نعرفها، ويعيدنا إلى جوهرنا الصافي، عراة من أي زيف.”
نور وهداية الروح
وجه الحاج رؤيته نحو سفيان، مبتسمًا، وقال بصوت هادئ: “البكاء لغة قلبية، كالبحر العاصف. ليس ضعفًا، بل صدى روحي. لا تخافي دموعك، فهي قوتنا الحقيقية. وقد ورد في سورة التوبة: ‘فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ’، صدق الله العظيم. تذكرنا هذه الآية بأن الدموع ليست عيبًا، بل جزء من رحلتنا الإنسانية، تعبير عن مواجهة تجاربنا وأخطائنا.”
وفي سورة الإسراء: ‘وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا’، صدق الله العظيم. هنا يظهر البكاء كعفوية صافية، لحظة يلتقي فيها القلب بالروح، ويكشف قوة الإنسان في التعبير عن أعماقه دون أقنعة.”
بكاء ينسج الهوية
نظرت نادية إلى الحاج بإجلال، ثم قالت: “ما تقول صحيح، يا حاج. الدموع ليست ضعفًا، بل دليل على صدق القلب ومواجهة النفس لما تمر به. هذا ما يجعل البكاء لحظة نقاء روحي كما أشار القرآن، لحظة يواجه فيها الإنسان أعماق ذاته بلا أقنعة.”
ثم أضافت بصوت لين: “ومع ذلك، في مجتمعنا، يُلقن الرجال الصمت بينما يُمنَحن النساء حق الدموع. لكن الحقيقة تظهر في اللحظات الفارقة: البكاء لا يسأل عن جنس. هو فيض القلب، والرجل كما المرأة يحتاج أن يفرغ ما في داخله.”
ابتسم الحاج عابد موافقًا، وأضاف: “القوة ليست في الصمت، بل في الصدق مع النفس. الشجاعة تكمن في السماح للمشاعر أن تظهر حين نحتاجها. دموعنا لا تميز بيننا، بل هي اللحظة التي يلتقي فيها القلب بالعقل ويجد كل منهما السلام.”
جرأة تصنع الفرق
ومع هذه الكلمات التي ألهمت الجميع، أضاف الحاج عابد بصوته الوديع: “كلنا نمر بلحظات نعتقد فيها أننا أقوياء بما يكفي لنتجاوز كل شيء، ونظن أن الصمت هو سلاحنا الأخير. لكن ضعفنا هو الذي يعيد تشكيلنا. الشجاعة تكمن في قبول مشاعرنا كما هي، والتعامل معها بصدق.”
ثم تابع موضحًا وكأنه يرسم الخلاصة: أن نحتفظ بشجاعتنا في مواجهة كل ما يعترينا من صعوبات هو أبلغ دليل على قوتنا الحقيقية. فالضعف ليس عارًا، بل هو جزء من إنسانيتنا التي ترفض أن تبقى صامتة أمام كل ما يؤلمها. وفي تلك اللحظات التي نسمح فيها لأنفسنا بالبكاء، نكون قد اخترنا أن نكون أكثر قربًا من أنفسنا، وأن نفتح أبواب القلب المغلقة، ليس للآخرين فحسب، بل لأنفسنا أيضًا.
حكمة الأجيال
وبهدوء، تدخل سفيان من جديد، وصوته يحمل صدق التجربة وعمق الشعور: “كنت أظن أن البكاء ضعف، وأن من يظهر دموعه قد فقد قوته. لكنني تعلمت، بعد تجاربي مع الخنق العاطفي وكبت المشاعر، أن البكاء ليس مجرد انكسار، بل هو شفاء للنفس. إنه لحظة يفرّ فيها القلب من ثقل الحزن، ويمحو بها الغبار عن الروح. حين أبكي، أستعيد جزءًا من نفسي كان ضائعًا، وأجد في كل دمعة صدى القوة والصدق، كما لو أن الروح تقول لي: ‘ها أنت حي، تستطيع الإحساس والتجاوز، تستطيع أن تكون صادقًا مع نفسك’.”
اعتراف جيل الكتمان
عندها تدخل الحاج عابد مجددًا، بصوت مبحوح بالذاكرة: “جيلنا كتم حزنه، لكنني بكيت يوم فقدت والدتي. لم يطهرني إلا ذلك. البكاء يطهر الروح، لا يخلع الرجولة.”
ثم تابع بصدق يخرج من قلب رجل عاش التجربة: “آه يا ابني… نحن جيل لم يُربَّ على البكاء، بل على كتمانه. في قريتي، كانوا يقولون لنا: اِدفنْ صوتك كما يُدفن حزنك. أذكر أن أبي رأني أبكي مرة، فضربني قائلاً: ‘الرجال لا يبكون، الرجال يصنعون’. تعلمت أن أدفن دموعي مع حزني. لكن الدموع المدفونة تروي جذور الأمراض، لا الزهور.”
ومع هذا التذكر، استرجع لحظة حقيقية أظهرت له الوجه الآخر للبكاء، فقال: “لكنني أذكر أنني بكيت مرة، في صمت الليل، يوم فقدت والدتي. لم يرني أحد، لكنني شعرت في تلك الليلة أنني أصبحت أقرب لنفسي. البكاء لا يخلع رجولتنا، بل يطهرها من الغبار العالق في الروح، ويكشف لنا أن القوة الحقيقية ليست في الصمت، بل في الصدق مع مشاعرنا.”
وداع يترك أثرًا
ابتسمت نادية، وقد لامست كلمات الحاج شيئًا خفيًا في داخلها، وقالت بصوت دافئ: “نعم، البكاء ليس علامة على الانكسار، بل هو نبض يدل على أن أرواحنا لم تجف بعد، وأن قلوبنا لا تزال تنبض بما تختزنه من شعور وإنسانية.”
كانت كلمات نادية كما لو أنها أكملت دائرة الحديث، وجعلت الجميع يتأملون. وساد صمت ثقيل، لكنه لم يكن فارغًا، بل مليئًا بالنظرات واللمسات الصغيرة، كأن القلوب تتحدث بلا ألسنة.
وحين بدأت لحظة الوداع تلوح، رفع الأستاذ إبراهيم نظره بابتسامة هادئة وقال: “لقد حان الوقت لتوديع أصدقائنا، والاحتفاظ بتلك اللحظات التي نختزن فيها السكينة بعد هذا النقاش المفيد.” حديث ترك فينا أثرًا عميقًا، كدفء حميمي يعانق أرواحنا، ويدعونا إلى التأمل والطمأنينة.
لكن قبل أن يتحركوا، توقف فجأة، كمن وجد أن قلبه يطلب كلمة أخيرة. طوال الحوار، كان الأستاذ إبراهيم يتابع كل الحوارات بصمت وتركيز، يستمع إلى كل همسة وكل دمعة، ليجمع ما قيل ويصوغ خلاصة تُنقش في الذاكرة. ثم رفع نظره ببطء، وقال بصوت هادئ، متأنٍ لكنه ممتلئ بالمشاعر:
“البكاء… هو لغة الروح حين تعجز الكلمات. نهر من المشاعر يفيض من أعماق الإنسان، يحمل في قطراته أسرارًا لا تُحصى وأوجاعًا لا تُقال. ليس ضعفًا، بل شجاعة صامتة لمواجهة ما بداخلنا. هو تطهير للقلب من أدران الصمت، وإعانة للنفس على حمل ما أثقلها.
في لحظة البكاء، نكون في أصدق حالاتنا، نعترف بأننا نحتاج إلى أن نشعر، وأن نُشعر غيرنا بنا. هو الندبة الظاهرة على الجلد، والندبة الأعمق في القلب التي تبحث عن اعتراف. قد يكون حزنًا يبحث عن مخرج، أو فرحًا لا يتسع له الصدر، أو حنينًا إلى زمن ولّى. لكنه في النهاية… بَشَرِيَّتُنا الخالصة تتحدث بلغتها الصادقة.
وهنا توقف قليلاً، كأنه يريد أن يمنح الحاضرين لحظة ليتذوقوا المعنى العميق، ثم أضاف وهو يبتسم ابتسامة عميقة: “كما قال الفيلسوف سينيكا: ‘أحيانًا، الدموع هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للروح أن تتحدث بها عندما تصبح الكلمات عاجزة عن التعبير.’ لذا، لا تخشوا دموعكم، فهي ليست إلا حروفًا صادقة تكتبها الروح على صفحات الوجود. من خلالها، نتجدد، نتعلم، ونعود أقوى مما كنا.”
ونظر إلى سعاد نظرة رقيقة، قبل أن يختم بقوله: “إنه لشرفٌ كبير أن نتبادل هذه اللحظات معكم. فالحياة، مهما قست، هي رحلة مشتركة، ومن خلال هذا التشارك الصادق للفرح والحزن، نكتشف أننا لسنا وحدنا.”
امتنان يملأ القلوب
مع انتهاء الأمسية، غادر إبراهيم وسعاد تاركين وراءهم أثرًا عميقًا من التأمل. بقي الحاج عابد ونادية يتشاركان صمتًا غنيًا، وكأن البكاء قد غيّر مجرى حياتهما. لم تكن تلك الدموع مجرد دموع، بل كانت جسراً بين القلوب، تذكيرًا بأن البكاء هو اللغة التي توحدنا جميعًا كبشر. وبينما تبادلا عناق الوداع، لمست نادية خدها فوجدته رطبًا؛ لم تبكِ من حزن، بل من امتنان.
نظرت إلى الحاج عابد فوجدت عينيه تلمعان. كان البكاء قد فتح قلوبًا مغلقة وربط أرواحًا منعزلة. وأرخى المساء ستاره على الدار البيضاء، حاملاً أسرار اللقاء.