بقلم: يوسف اغويركات
في مقالته “غزة وفضيحة المعايير المزدوجة”، كشف المناضل مصطفى البرغوثي حجم المأساة وعرّى نفاق العالم. مقالة تضعنا أمام مرآة قاسية تكشف فداحة المأساة الإنسانية، وتفضح ازدواجية المعايير في العالم.
ومن موقع التفاعل مع ما طرحه، ومن هذا الوجع المشترك، أجد من الضروري إضافة بعض الملاحظات والتأملات التي قد تُسهم في تعميق النقاش وتوسيع دائرته.
غَزَّة كَاخْتِبَارٍ أَخْلَاقِيٍّ لِلْإِنْسَانِيَّةِ اَلْمُعَاصِرَةِ
أَوْ هَلْ تَنْتَمِي غَزَّة إِلَى اَلْعَالَمِ؟
في لحظة تاريخية تتعرى فيها الشعارات وتُفضح فيها المؤسسات الدولية التي طالما ادّعت الدفاع عن حقوق الإنسان، تبرز غزة ليس فقط كقضية سياسية أو إنسانية، بل كاختبار أخلاقي صارخ للمنظومة العالمية المعاصرة. إنها ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل مرآة تعكس التناقض البنيوي في خطاب “الإنسانية” كما يُمارَس ويُصنَّف.
فبينما تُفرض العقوبات على دول لم تُتهم بجرائم حرب أو إبادة جماعية، تُترك إسرائيل لتواصل عدوانا ممنهجا على شعبٍ أعزل منذ أكثر من ثمانية عقود، مدعومة بصمت دولي وغطاء غربي لا يخجل من ازدواجيته. هذا التناقض لا يُختصر في غياب الإدانة، بل يتجلى في بنية التفاعل الدولي ذاته، حيث يُعامل الفلسطيني ككائن خارج الحماية، خارج التصنيف، وخارج “العالم” كما يُراد له أن يكون.
السياسة الإسرائيلية تتقاطع مع أنماط الفاشية التاريخية
تُظهر السياسة الإسرائيلية، كما تمارسها حكومة نتنياهو، سمات تتقاطع مع أنماط الفاشية التاريخية، قتل ممنهج، تهجير قسري، تدمير للبنية الاجتماعية، واحتلال دائم للأرض. ومع ذلك، لا تُستدعى القمم الطارئة، ولا تُفعل آليات المحاسبة الدولية، بل تُمنح إسرائيل غطاء سياسيا وعسكريا يجعلها فوق القانون، وعلى حساب حق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة.
المفارقة الأخلاقية تتجلى بوضوح حين نتأمل ردود الفعل العالمية، ماذا لو نجحت المقاومة الفلسطينية في دكّ عمارة واحدة في تل أبيب؟ هل كان العالم سيصمت؟ هل كانت الشاشات ستبقى على حالها؟ بالطبع لا. لكن حين تُدك مئات العمارات في غزة، ويُقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء تحت الأنقاض، لا يُستدعى حتى بيان إدانة جاد. هذه المفارقة وحدها تكفي لتؤكد أن غزة، في نظر هذا العالم المتواطئ، لا تنتمي إلى “العالم”.
الفلسطيني والإفريقي والآسيوي خارج الحماية
إن نفي غزة من منظومة الإنسانية لا يتم فقط عبر التجاهل السياسي، بل عبر خطاب رمزي يُقصيها من تعريف “الضحية المستحقة للتضامن”. فالفلسطيني، كما الإفريقي والآسيوي، يُعامل في كثير من الخطابات الغربية ككائن خارج الحماية، كاستثناء لا يُستدعى إلا لتبرير القوة أو إعادة إنتاج الهيمنة.
وهنا تبرز أهمية استحضار الذاكرة الاستعمارية للغرب، التي لم تكن مجرد حقبة تاريخية، بل بنية مستمرة من الهيمنة وإعادة إنتاج التراتبية الإنسانية. لقد تورطت القوى الغربية في استعباد ملايين الأفارقة، وفي نهب ثروات آسيا وإفريقيا، وفي فرض نظم الفصل العنصري، وفي كتابة سرديات تُقصي الآخر وتُبرر السيطرة. هذا التاريخ لا يزال حاضرا في طريقة تعاطي الغرب مع القضية الفلسطينية، حيث يُمنح المعتدي شرعية، ويُجرد الضحية من إنسانيته، تماما كما جُرّدت الشعوب المستعمَرة من حقها في الوجود الحر.
غزة لا تحتاج إلى عواطف موسمية
إن تجاهل هذا الماضي هو تجاهل للبنية العميقة التي تُنتج الصمت الدولي اليوم. فغزة ليست فقط ضحية عدوان عسكري، بل ضحية سردية عالمية تُعيد إنتاج الاستثناء، وتُقصي الشعوب غير الغربية من دائرة التعاطف والعدالة.
وهنا، تصبح مسؤولية الدول العربية والإسلامية مسؤولية وجودية، لا سياسية فقط. المطلوب ليس بيانات إدانة شكلية، بل إعادة تعريف الموقف العربي من موقع الفعل، لا التلقي؛ من موقع المبادرة، لا التبرير. فغزة لا تحتاج إلى عواطف موسمية، بل إلى تحرك دبلوماسي منسق، يضع العدوان الإسرائيلي أمام المحاكم الدولية، ويعيد الاعتبار للكرامة الفلسطينية في المحافل الأممية.
فظاعة العدوان مقابل هشاشة القيم
كما أن الشعوب الغربية، التي لطالما كانت ضحية لسرديات مضللة، مدعوة اليوم للتحرك، للضغط على أنظمتها، ولتحويل الصمت إلى فعل احتجاجي. فالمسؤولية الأخلاقية لا تقع على الحكومات وحدها، بل على كل من يدّعي الانتماء إلى قيم العدالة والحرية.
إن صور الدمار، الأطفال تحت الأنقاض، والعمارات التي تنهار في لمح البصر، لا تكشف فقط عن فظاعة العدوان، بل عن هشاشة القيم التي يتغنى بها العالم. إن لم يتحرك العالم اليوم، فغدا لن يكون هناك ما يُنقذ من إنسانيته.
الوضع لم يعد يحتمل التأجيل أو التواطؤ
نحن أمام لحظة فارقة، تتطلب من القوى الحية في العالم أن تُجدد عهدها مع القيم النضالية، وتُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، لا كمفهوم نظري، بل كممارسة يومية في وجه الظلم والخذلان. وعلى الدول العربية والإسلامية أن تقف موقفا موحدا، لا من باب الحرب، بل من باب الفعل السياسي والدبلوماسي المؤثر، لحماية شعب يُقتل أمام صمت العالم.
الوضع لم يعد يحتمل التأجيل أو التواطؤ. غزة ليست فقط قضية فلسطينية، بل سؤال أخلاقي عالمي، يحدد من ينتمي إلى الإنسانية، ومن يكتفي بالتفرج عليها وهي تنهار.