محمد التاودي
ليست مجرد شحّ في الإمكانيات، بل هي شرخٌ عميق في خاصرة الوطن، اختل فيه ميزان العدالة حتى صار الجسد الواحد غريبًا عن نفسه. من بين طوابير الانتظار الطويلة أمام المستشفيات المتعبة، والمراكز الصحية التي أنهكها الإهمال، تتهاوى أقنعة النظام الصحيّ، ليكشف عن وهنٍ بنيويّ حوّل “الحق” في الشفاء إلى “امتياز” لا يناله إلا من يملك ثمن الحياة.
إنها اللحظة الفاصلة التي تتحول فيها المعاناة من مجرد ألم جسدي إلى محنة وجودية، حيث يصبح الطريق إلى العلاج أقسى من وطأة الداء نفسه. أن تدفع ستين في المئة من كلفة شفائك من جيبك الخاص، فهذا يعني أن الجسد المغربي لم يعد ملكًا لصاحبه، بل أصبح رهينة في سوق للمساومات، حيث تُقاس القيمة الصحية بقدرة المحفظة، لا بقدسية الحياة.
هنا، تحت وطأة الانتظار الذي لا ينتهي، يتحول الوطن إلى غرفة انتظار كبيرة، يئن فيها الجسد الجماعي، ويتحول المرض إلى تاجٍ من شوك لا يراه إلا أولئك الذين يلمس بريق الموت أكتافهم، فيكتشفون أن الصحة هي ذلك التاج الخفي الذي لا يراه الأصحاء.
ويأتي هذا الواقع ليضعنا مباشرة أمام حجم المعاناة اليومية التي يواجهها المواطن، ما يمهّد للغوص في نغمة الوجع المنتشرة في كل زاوية من الوطن، ليصبح واضحًا أن الأزمة الصحية تتجاوز الألم الفردي لتلامس جسد الأمة كله.
نغمة الوجع
بين قمم الأطلس وسواحل البحر، يمتد وجع المغرب كنغمة حزينة في جسد الأمة. المدن الصاخبة والقرى المنسية تتقابل فيها صرخات الأفراد مع خذلان الجماعة، فلا يواجه المواطن المرض فحسب، بل هشاشة السياسات وغياب الرؤية.
حيث كان من المفترض أن تسبق الوقاية الدواء، تعطلت البرامج وغابت الخطط. المستشفيات المتعبة لم تعد سوى شواهد مترهلة، والمراكز الصحية تحولت إلى بنايات خاوية أو مكتظة بأطباء مثقلين بما يفوق طاقتهم. كل وجعة تحمل قصة إنسانية تبحث عن أذن تسمع وقلب يهتم، لتصبح رحلة العلاج نفسها اختبارًا للصبر والأمل في وطن يئن من الداخل.
وفي هذا السياق، تزداد التجارب الإنسانية وضوحًا كلما ابتعدنا عن مراكز الخدمات نحو الهوامش، حيث يصبح طريق العلاج أطول من وجع المرض، وتنكشف مأساة المواطن في سعيه وراء الرعاية.
في المناطق النائية، يصبح الوصول إلى العلاج أقسى من الداء نفسه، وفي المراكز الحضرية يخنق الزحام أنفاس المريض قبل أن يبلغ الطبيب. كما في قصة فاطمة من قرية جبلية في الأطلس، التي توفيت بسبب مضاعفات السكري أثناء انتظارها موعدًا في المستشفى الإقليمي لأكثر من ثلاثة أشهر، أو يوسف الشاب الذي اضطر لبيع آخر ما يملك لتمويل عملية قلب مفتوح لابنه.
وأمام هذه المعاناة، نرى أمهات يمشين عشرات الكيلومترات بحثًا عن دواء، وشيوخ ينتظرون ساعات أمام بوابة المستشفى ليُقال لهم إن العلاج غير متوفر، وشباب يواجهون قلقًا واكتئابًا تتراكم فوقه البطالة وضغوط الحياة، فتتحول الصحة النفسية إلى جرح خفي لا يقل خطورة عن آلام الجسد.
ويزداد الألم عندما يتحول العجز عن العلاج إلى اكتئاب قاتل، فكم من نفس انطفأت بين طوابير الانتظار، وكم من قلب توقف عن النبض قبل أن يتوقف الجسد، وألم رؤية الحبيب يموت بسبب عدم القدرة على الدفع أبلغ من الموت ذاته.
هكذا، تتقاطع أصوات الأفراد مع صرخة الجماعة، وتذوب القصص الصغيرة في جرح الوطن الكبير، لتظل أسئلة العدالة والصحة معلقة: إلى متى يعزف الوجع منفردًا على أوتار الأمة دون أن يجد لحناً يبشر بالشفاء؟
صورة الوجع الإنساني
في قلب هذه المعاناة، يقف الإنسان عند مفترق الآلام، حاملاً أسئلة عن حياته أمام عيادات تُغلق أبوابها في وجهه. تتهادى الأعراض كظلال على جدار الواقع، وكل وجعة تحمل قصة إنسان يبحث عن أذن تسمع، وقلب يرحم.
وتتضاعف هذه الصورة الإنسانية تعبيرًا حين نرى الأسرّة تئن تحت وطأة الاكتظاظ، وتتحول الأدوية إلى سراب بعيد، ليبقى الجسد ساحة للألم، والروح معلقة بين يأس وأمل. مثل طائر يحاول الطيران بجناحين مكسورين، يظل الإنسان المغربي يبحث عن بصيص أمل في سماء معتمة بالوجع.
ليل الانتظار
طريق الشفاء محفوف بالعقبات؛ فالمواعيد تُباع في سوق الظل، والانتظار يمتد مثل ليل طويل لا ينتهي. المستعجلات غارقة في الفوضى، والتحاليل تتحول إلى متاهة منهكة، تستنزف الجيوب وتجهد القوى. الانتظار الطويل لا ينهك الجسد فقط، بل يضعف الروح، ويحوّل المريض من إنسان يبحث عن الشفاء إلى رقم في طابور لا ينتهي.
حتى الكوادر الطبية شحيحة كالمطر في الصحراء، والخدمات لا تُقدَّم إلا بثمن مخفي تحت الطاولة، ليصبح المرض مشروعًا مثقلاً بالديون، وتظل الكرامة الإنسانية محاصرة بين مطرقة الألم وسندان النظام، ويصبح الأمل سلعة نادرة يُتاجر بها في أروقة المستشفيات، ويُساوم عليها على أبواب الصيدليات.
وفي أفق 2025، تُبشّر الخطط الحكومية بفتح أبواب جديدة في وجه المرضى، بإنشاء 64 مستشفى وتجديد المراكز الإقليمية، حتى لا يبقى الانتظار ليلاً طويلاً بلا فجر. ولن تكون هذه مجرد وعود على الورق، بل مشاريع تُسندها رقابة صارمة على التنفيذ، وزيادة في الميزانيات المخصّصة للتشغيل، مع متابعة من المجتمع المدني ليبقى كل شيء واضحًا أمام الناس. هكذا تتحول الجهود، خصوصًا في القرى البعيدة، إلى جسور تربط بين الصمت المنسي هناك وضجيج المدن، ليغدو الشفاء طريقًا معبّدًا لا متاهة مرهقة.
أرباح بلا رحمة
بين أرباح القلة وأنات الكثرة المهمشة، أصبحت المستشفيات الخاصة قصورًا محصنة بأسوار عالية، بينما تتحول المستشفيات العمومية إلى ساحات انتظار للموت البطيء، وكأن حياة الفقير لم تعد سوى رقم في الإحصاءات.
داخل جدران المستشفيات الخاصة، يُستثمر الألم وتحوّل الأنين إلى سلعة، وتقف الإنسانية عارية أمام منطق السوق. تتهاوى الأجساد الضعيفة على أبواب عيادات ترفض الشفاء إلا لمن يملك القدرة على الدفع. الأموال تتراكم في صناديق لا تعرف الرحمة، بينما تتدفّق الحياة من أجساد لا تقوى على دفع فاتورة البقاء.
وهنا يتحول الطب إلى تجارة، والمرض إلى مشروع استثماري، وتُختزل الكرامة الإنسانية في رصيد بنكي. بعض المرضى يبيعون آخر ما يملكون من أجل نفس يُنقذ، وآخرون يعودون إلى بيوتهم حاملين موتًا بطيئًا، لأنّ سعر الحياة فاق طاقتهم.
وفي مشاهد أكثر قسوة، تتحول بعض الغرف العلاجية إلى ساحات للمساومة على الحياة، حيث تُعلَّق الإجراءات العاجلة بانتظار التحويلات البنكية، وتُرفع الفواتير إلى عنان السماء بينما حياة المرضى معلقة بخيط رفيع. يصبح الأمل هنا سلعة تُباع وتُشترى، وتغدو دموع الأقارب أثمانًا تُدفع في صمت، فيما يظل الفقراء واقفين خلف الزجاج يترقبون دواء قد ينقذ أحبتهم.
وبين أرباح القطاع الخاص ومسؤولية القطاع العام، تبرز شراكات جديدة في 2025، حيث توسع مجموعات مثل أكديتال شبكاتها لتشمل 36 مرفقًا، مع حوافز للشراكة مع القطاع العام لخفض التكاليف وتوفير خدمات مدعومة.
الشرخ بين الحق والامتياز
هذا التعاون يحوّل الألم من سلعة إلى حق مشترك، كأنه جسر يربط بين قصور الثراء وساحات الفقر، ليصبح الشفاء متاحًا للجميع لا للقلة.
وفي المسار الموازي، حيث تُحجز التذاكر إلى عوالم أخرى، يهرب الأغنياء من واقع لم يعودوا يحتملونه، نحو أماكن تُعامل المرض كقضية إنسانية قبل أن يكون رقماً في سجل الحسابات. هناك تُصان الكرامة ويُحترم الجسد، فيجدون ما حُرموا منه في وطنهم: حقًّا أساسيًا في الحياة.
هذا الهروب يعمّق الشرخ في جسد الأمة، فالفجوة لم تعد بين الأغنياء والفقراء فقط، بل بين من يملكون حق البقاء ومن يُتركون لمصيرهم. المستشفيات الخاصة باتت أشبه بقلاع فاخرة تُرفع على أسوارها لافتات غير معلنة: “ممنوع الدخول إلا لمن يملكون مفاتيح الثراء”، بينما تتهاوى الأجساد المريضة على أبواب المستشفيات العمومية كأوراق يابسة تنثرها الرياح.
كسفينة تتقاذفها الأمواج بين بحر المستشفيات الخاصة وجزر المستشفيات العمومية، يبقى المريض المغربي يبحث عن شاطئ أمان، مثل نبتة عطشى في صحراء قاحلة تتوسل قطرة ماء، علّه يجد بصيص أمل في منظومة متيبسة.
وتبقى الأسئلة معلّقة: متى تتحول الصحة من امتياز للقلة إلى حق للجميع؟ ومتى يشفى الوطن من أدوائه قبل أن يضيع بين أرباح القلة وأنات المهمشين؟
نزيف الكفاءات وأنغام المقاومة
ولعل أعمق الجروح ما يخلّفه نزيف الكفاءات، حين يتحول الطبيب من سند للوطن إلى مهاجر يبحث عن خلاصه بعيدًا عنه. كل طبيب يغادر هو وتر ينقطع من آلة الأمة، فتختل نغمتها ويغدو لحنها متعارضًا، كأن الجسد فقد توازنه بين الصمت والصوت.
لكن حتى في صمت هذا اللحن الحزين، تولد نغمات مقاومة كإيقاع خفي يدق في قلوب الناس، فتعلو إرادة الحياة فوق ضجيج الألم، وتشرق من بين الشقوق أنغام أمل لا تخطئها الأذن.
وفي عصر الرقمنة، تدخل التكنولوجيا كنسمة إنقاذ جديدة: رقمنة السجلات الطبية وتطبيقات التلميديسن منذ 2023، لتقليل الانتظار وتمكين الوصول إلى المناطق النائية. خطوات إصلاح 2025 هذه تحوّل المنظومة من متاهة ورقية إلى شبكة ذكية تنبض بالكفاءة، كخيوط نور تربط بين الجسد المريض والشفاء البعيد.
هكذا، يتضح أن معركة الصحة في المغرب ليست مجرد أرقام وخطط، بل صراع إنساني بين امتياز وحق، بين نزيف وأمل، وبين لحن حزين وأنغام مقاومة.
سردية الهجرة الطبية
يهاجر الأطباء كطيور تبحث عن سماء أرحب، تاركين وراءهم فراغًا يشبه نزيف الحياة. كل طبيب يغادر يحمل جزءًا من مناعة المجتمع، وكل ممرضة تودع الوطن تترك خلفها جرحًا خفيًا في جسد الأمة، يئن بصمت تحت وطأة الغياب.
ويعترف أحد الأطباء الذين غادروا مؤخرًا: “لم يكن الراتب هو الدافع الوحيد، بل شعور بعدم التقدير وبيئة عمل استنزفت طاقتي دون أن تمنحني أفقًا للنمو.”
كلمات تتردد كصدى حزين داخل منظومة تنهار من الداخل قبل أن تصطدم بضغط الواقع، وتكشف عن وجوه بشرية وراء أرقام الهجرة الباردة. ومع ذلك، فإن الحياة لا تُسلم نفسها بسهولة لليأس، ما يمهّد الطريق لمناخ من مناعة الوطن.
مناعة الوطن
رغم العواصف، ينبت المغاربة كأزهار في الصحراء. أمهات ينتظرن في طوابير لا تنتهي، آباء يبيعون ممتلكاتهم من أجل علاج أبنائهم، وشباب يتحدون الاكتئاب بإرادة لا تعرف الكلل. هنا تصبح المقاومة شكلاً من أشكال الصمود، ومن قلب هذا الإصرار تنبثق صور التضامن، مما يربط الحاجة للإصلاح الوطني بالجهود الفردية والجماعية معًا.
ولا تقف المرأة عند دور الأم الحانية التي تنتظر في الطوابير، بل تتحول إلى محور في شبكات التكافل، تقود الجمعيات المحلية، وتنظم حملات التوعية، وتكون حجر الزاوية في بناء تلك المناعة المجتمعية التي تحمي الوطن من الانهيار.
نحو صحوة وطنية
الشفاء يبدأ عندما نعي أن جسد الوطن كجسد الإنسان، يحتاج إلى رعاية شاملة وإرادة لا تعرف المستحيل. قد تكون الرحلة طويلة، لكن كل خطوة على طريق الإصلاح تقربنا من غد أفضل، حيث تكون الصحة حقًا للجميع، لا امتيازًا للقلة.
غير أن هذا الوعي لا يكتمل دون تشخيص واضح للجروح العميقة، وهو ما يقودنا لفهم عمق الأزمة في المنظومة الصحية الوطنية.
تشريح الجرح الوطني
تشبه المنظومة الصحية جسدًا مريضًا بلا طبيب، سياسة وقائية غائبة كحارس نائم على أبواب الصحة، وبنية تحتية متوعكة تشبه عظامًا منهكة تحت وطأة الأعباء. هجرة الكفاءات الطبية تشبه نزيفًا لا يتوقف، وأسعار الأدوية تحولت إلى حصون منيعة أمام طموحات الفقراء. ومن هنا تظهر أهمية الإصلاحات الحكومية التي تحاول سد الثغرات وإعادة الأمل للمواطنين.
لكن هذا الجرح الصحي ليس معزولًا، بل هو حلقة في سلسلة أزمات مترابطة: فضعف التعليم ينتج وعياً صحياً محدودًا، واستشراء الفساد الإداري يستنزف الموارد المخصصة للشفاء، مما يحول دون أي إصلاح حقيقي. هكذا يتضح أن إصلاح الصحة لا ينفصل عن إصلاح المنظومة الوطنية برمتها، فالجسد لا ينهض ما لم تُعالج كل أعضائه معًا.
نبض الأمل
ومع ذلك، ينبثق أمل جديد من رحم الإصلاحات الحكومية، حيث أطلقت الدولة في 2023 خطة التغطية الصحية العالمية، مدعومة بقرض دولي يبلغ 450 مليون دولار، لتوفير تأمين شامل يغطي الجميع بحلول 2035، خاصة في المناطق القروية والفقيرة.
وبالربط مع هذه الجهود، تم في 2025 إقرار هيكل موحد جديد للتأمين الصحي الأساسي، يجمع الجهود لتقليل الفجوات المالية، ويحوّل الصحة من عبء فردي إلى مسؤولية جماعية، كأنها نسيج يُنسج من خيوط الأمل ليغطي جسد الأمة بأكمله. هذه المبادرات تشكل جسراً بين التشخيص الوطني والتطبيق العملي للإصلاح، وتعيد الثقة بين المواطن والدولة.
المناعة المجتمعية
وفي ظل غياب الدولة أحيانًا، يبرز المجتمع كشبكة أمان بديلة، حيث تلعب القيم الاجتماعية والتكافل العائلي دورًا كبيرًا في حماية الأسر الضعيفة.
لكن هذه الحلول، مهما اتسعت، تظل هشة ما لم تسندها إرادة إصلاح حقيقية. فالإصلاح يبدأ من إعادة الاعتبار للإنسان، وجعل الصحة حقًا دستورياً لا يُتاجر به، واستعادة قيمة الطبيب كرسول للرحمة لا تاجراً للخدمات. فلا يكفي بناء المستشفيات والجدران، بل يجب أولاً بناء الضمير والقيم وغرس الرحمة في النفوس قبل أي أجهزة أو تجهيزات، لتصبح كل جهود المجتمع والدولة متكاملة.
أعباء اقتصادية خانقة
وعلى هذا الأساس، حين يطرق المرض باب البيت الفقير، يتجاوز الوجع حدود الجسد ليطال تفاصيل الحياة كلها. فتكاليف العلاج تثقل يوم الفقير وغده، فيجد نفسه بين عجزٍ عن التداوي وخوفٍ من الانهيار. وهكذا تتحول الصحة، التي يُفترض أن تكون حقًا للجميع، إلى حلم بعيد المنال، فتغدو الحاجة إلى إصلاحٍ جذري وضمانٍ اجتماعي شامل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
هكذا يكتمل القيد: المرض يسرق مدخرات العائلة، والفقر يعيد إنتاج المرض، فتدخل الأسر في دائرة مغلقة لا بداية لها ولا نهاية، حيث يُصبح الجسد ميدان معركة يخوضها الفقير بلا سلاح. هذه الدائرة المفرغة لا تكتفي بسرقة المدخرات، بل تسرق الأحلام أيضًا، وتقتل الطموح في نفوس الشباب الذين يرون مستقبلهم يضيع بين فواتير المستشفيات.
ومن دروس الجائحة، انبثقت حملات وقاية موسعة في 2023-2024، مع برامج تطعيم شاملة تقلل الأعباء الاقتصادية وتعزز المناعة المجتمعية، محولة المرض من دائرة مغلقة إلى طريق مفتوح نحو الصحة. هذه الجهود، التي تركز على الرعاية الوقائية، تشبه غرس بذور الأمل في تربة الأمة لتنبت قوة لا تنكسر أمام العواصف.
نزيف الكفاءات
لكن الاستنزاف لم يعد ماليًا فحسب، بل مسَّ جوهر المنظومة الصحية نفسها. فالأطباء والممرضون يغادرون تباعًا نحو آفاقٍ أرحب، بحثًا عن تقديرٍ مهني وأجورٍ عادلة، تاركين وراءهم فراغًا ينزف من قلب المستشفيات، كأن الوطن يفقد نبضه مع كل كفاءة ترحل.
وكيف يُرجى شفاء جسد بلا شرايين؟ النتيجة واضحة: ممرات مكتظة، غرف انتظار يطول فيها الصبر حتى يشيخ، أصوات أنين تعلو فلا تجد من يصغي لها. في المستشفيات، تتحول رحلة العلاج إلى رحلة انتظار مرهقة، يطغى فيها عجز النظام على حاجة المريض، فيبدو الأمل مؤجلاً إلى أجل غير مسمى.
ومع ذلك، ومن بين هذا المشهد المثقل بالغياب، يظل بصيص الحياة يرفض الانطفاء، فتستمر روح المقاومة في نفوس المغاربة، وتظل بذور الأمل تتفتح على الرغم من كل الصعاب.
مقاومة الحياة
ومع ذلك، يظل الإنسان المغربي عصيًا على الانكسار. يتكئ على تكافل أسرته حين تضعف قدرته الفردية، ويجد في مبادرات جمعوية صادقة سندًا غير متوقع، فتزهر بين الفقراء حدائق صغيرة من الرحمة. في القرى، حيث يغيب الطبيب العصري، ينبعث الطب التقليدي كجسر هش بين الإنسان وأمله في الشفاء.
لكن ما يقوي العزائم حقًا ليس دواءً ولا مبادرة، بل ذاك الإيمان العميق بأن “بعد العسر يسرا”، واليقين بأن الصبر مفتاح الفرج. من هذا الإيمان يولد الصمود، ومن بين شقوق المعاناة تتسلل أشعة حياة تُعلّم الناس أن مقاومة الألم هي شكل آخر من أشكال العيش.
غير أن المقاومة وحدها لا تكفي إن لم تسندها رؤية تعيد ترتيب البيت الصحي من أساسه، وتحوّل الجهد الفردي إلى مشروع وطني متكامل.
فحين يطول الانتظار وتُغلق الأبواب في وجه الإصلاح، يبدأ الأمل بالبحث عن طريق جديد، عن صوتٍ آخر يحمل الهمّ الجماعي بلغةٍ مختلفة. ومن رحم الإحباط يولد الوعي، ومن بين الركام تتشكل إرادة جيلٍ يرفض أن يبقى شاهدًا صامتًا على الألم.
جيل زد 212… حين نهض الوعي من تحت الرماد
وفي هذا السياق، بينما كانت جراح الوطن تنزف في صمت، ظهر جيل جديد يحمل في صوته نورًا مختلفًا. لم تكن مجرد احتجاجات عادية، بل يقظة وعي بدأت من شاشات الهواتف قبل أن تنزل إلى الشوارع. صار الفضاء الرقمي ساحة للنقاش، والهواتف منابر للحقيقة، والكاميرات شهودًا على معاناة الناس أمام المستشفيات، حيث الألم لا يُقاس بالأرقام.
ومع ذلك، لم يخلُ المشهد من الفتنة؛ فقد حاولت بعض العناصر الغريبة والبلطجية ركوب الموجة، فافتعلوا الشغب واعتدوا على الممتلكات، وشوّهوا الصورة النقية للحراك. لكن وعي الشباب كان أقوى، فتمسّكوا بسلميتهم، وردّدوا أن الإصلاح لا يولد من العنف، بل من الإصرار والوعي، محولين غضبهم الفردي إلى طاقة جماعية بنَفَس حضاري وسلوك راقٍ.
لقد كان ما صنعه جيل زد 212 درسًا في النضج والمسؤولية. شباب لم يصرخوا فقط، بل كتبوا حكاية جديدة لوطن يبحث عن عدالة وكرامة. من رحم الألم، زرعوا بذور الأمل، ومن بين الشقوق خرجت وردة تقول للعالم: “هنا وُلد وعي جديد.”
أفق الإصلاح
لكن، ما قيمة الوعي إن لم يتحوّل إلى فعل؟ وما جدوى الغضب النبيل إن لم يُترجم إلى مشروع إصلاح شامل يضمّد جراح الوطن؟ من هنا، يطلّ أفق الإصلاح كضرورة لا يمكن تأجيلها.
فلا يكفي الصبر على الوجع، لأن الصبر وحده لا يداوي جرح الأمة. نحن بحاجة إلى رؤية إصلاحية تعيد للإنسان مكانته، وتجعل من الصحة حصنًا يُطرق وقايةً لا اضطرارًا. إصلاحٌ يُعيد بناء المستشفيات لا كجدران باردة، بل كفضاءات تصون كرامة المريض وتحضنه في لحظة ضعفه.
وحتى يكتمل هذا الحلم، لا بد من إصلاحٍ يحتفي بالكفاءات الطبية، فيمنح الأطباء والممرضين أسباب البقاء، ويحول دون نزيف الهجرة. إصلاح يضمن للفقير حق العلاج، ويكسر قيد المال عن الحياة، لينسج بين القرية والمدينة خيط عدل متين؛ فلا يزدحم المركز بما لا يحتمل، ولا يظل الهامش وحيدًا بلا سند.
ولعلّ هذا الإصلاح المنشود ليس خيالًا أو أمنية بعيدة، بل حقيقة أثبتتها تجارب الأمم التي آمنت بأن كرامة الإنسان أساس التنمية. ففي دولٍ جعلت من الإنسان جوهر سياساتها، صار العدل الصحي حجر الزاوية لكل بناء اجتماعي. هناك، حيث التأمين الصحي الشامل يغمر الجميع، كما في السويد، يصبح العلاج حقًا لا يحتاج إلى استجداء.
وهذا الدرس الإنساني يذكّرنا بأن العدالة الصحية لا تميّز بين مواطن ومقيم، ولا بين غني وفقير. فليس المواطن وحده من يحظى بهذا العدل، بل حتى الغريب العابر، والسائح الذي يخذله جسده، واللاجئ الذي أثقلته المنافي. حين يسقط أحدهم مريضًا في عتبة مستشفى، لا يُسأل عن ماله ولا عن أوراقه؛ فالإنقاذ يسبق الحساب، والصحة تتقدّم على المال. يدخل الإنسان غرفة العلاج كروح تحتاج العناية، لا كفاتورة تنتظر الدفع، وتكون المحاسبة بعد أن يُستعاد النبض وتستقيم الأنفاس.
وهكذا، تتجلّى الصورة التي حلم بها جيل زد 212 حين خرج يهتف من أجل الكرامة: إصلاحٌ يجعل من الطب وعد حياة، ومن الوطن بيتًا يتسع للجميع، حيث لا يُقاس الإنسان بماله، بل بإنسانيته، وحيث تتحول صرخات الألم إلى فجرٍ جديد من الوعي والإصلاح.
من الألم إلى البناء
ذلك الإصلاح يشبه وعد الفجر بعد ليل طويل: دواء متاح لكل يد، رعاية حق لا امتياز، وأمل ملموس يرد للأمة صحتها وكرامتها، ويجعل من العناية بالإنسان أقدس الأوطان.
ومن الأفق الذي نرتجيه، تعود بنا الخطى إلى جذور الأزمة، لنفهم أن الطريق إلى الغد الأفضل يمر عبر تحويل الألم إلى طاقة بناء. ليس الوجع المشترك اختياراً، لكن تحويل هذا الوجع إلى إرادة جماعية للبناء هو التحدي الحقيقي. إنه الخيار الذي سيحدد إن كنا أمة تسمع أنين ذاتها فتُجيب، أم تتركه صدى يضيع في الريح.
لن تنفك الأزمات الصحية عن واقعنا، لكنها حين نتعلم فن تحويلها من عبء يثقل كاهل الأمة إلى طاقة تبني مستقبلاً أفضل، تفتح أمامنا دروبًا أكثر صفاءً وكرامة. الشفاء يبدأ عندما ندرك أن صحتنا ليست ملكاً فردياً، بل نسيجاً جماعياً، وأن الجسد الوطني كالجسد الإنساني يحتاج إلى رعاية شاملة، وقلب ينبض بالمسؤولية، وإرادة لا تعرف المستحيل.
في رحلة من الألم إلى البناء، ومن المعاناة إلى الأمل، يصبح الوجع المشترك جسراً نحو اللقاء، والمعاناة الجامعة أرضية لإعادة اكتشاف إنسانيتنا المفقودة. ويبقى الأمل وعداً مؤجلاً… وعدٌ لن يتحقق إلا بتحويل هذه الكلمات من حبر على ورق إلى ضغط مجتمعي منظم، ومساءلة حقيقية، ومشاركة فعالة من كل مواطن في رسم اللحن الجديد لأوتار هذه الأمة.